Views: 14
إنثيالات الذاكرة المخرومة
في قصيدةالشاعر عبدالسادة البصري -العراق-:
………….…………………………
لعلّ أول من بلور مفهوم تعدد الاصوات في النص هو ميخائيل باختين الروسي،الذي أشار بكل وضوح إلى حضور عدة أجناس وفنون ولغات مختلفة في النص السردي الواحد،خلال دراسته لروايات دوستويفسكي1.
هذا التشخيص يكاد يكون ثيمة الذاكرة المخرومة لشاعرنا-موضوع المطالعة-وهي ثيمة لم تكن بلامقدمّات وعي خلاقة ينطوي عليها الشاعر،كون هذه الظاهرة تحتاج إلى قدرات خاصة أصلية ومكتسبة من أجل توظيف وتأطير عناصر الخلق بكل تفاصيل الحدث الشعري باتجاه غايته.
من هنا تجدر بنا الاشارة إلى تنوع منجزات الشاعر الادبية كونه يمثل إنموذجاً واضح التجليات للاديب المتعدد التوجهات إبداعياً، فالبصري فضلاً عن مزاولته لجميع الطرازات الشعرية،فإنه أيضاً صاحب تجربة روائية ونقدية وإعلامية، فضلاً عن دوره كعضو في المجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عن محافظة البصرة ولثلاث دورات متلاحقة.
هذه التوطئة الموجزة لغاية بيان مستوى الوعي الذي ينطوي عليه الشاعر.
ومن خلال هذا الأفق الواسع نفهم قدرته على استلهام العتبة من روح النص وإسلوب عرضه على مسرح الحياة الثقافية،وذلك أمر في غاية الاهمية لعلاقته بمادة حوارنا في هذه المطالعة الكثيفة.
من هنا سنقرأ النص أولاً لكي يتابع المتلقي الكريم ما أشرنا اليه :
( ذاكرة مخرومة
*
إبتسامة صفراء، دموع الفرح، امزجْها،
أضف من وجدك شوقاً وردياً،
للحلم الناعس،اجمعها،في دورق ايامك،
اسكبها،مولوداً يأتي بعد مخاض أسود، يرسم في عينيه
بساتينا من ورد أحمر!!!
عجائز ردت للعمر الارذل تأتيك محملة ،بسلال يملأها
القمل الابيض والاسود تفترش دروب الرحلات المتعبة،
تهفهف أنثى تتلفع بالحزن فوق عيونك بمراوح عمر وردي وتغني:
-بحّار قد خبر البحر يمر على الشاطيء كسلان ويقذف بالقبعة الى الموج،
يصفر لحناً قدسياً لعروس البحر، شقيقة نعمان تتهادى كالطاووس….
وعين من خلل الشباك تراقب…وتراقب،
تتعب أقداح الشاي ولاتنأى العين،
تلازمك الرعدة أنى ولّيت الوجه،
يحدثك الكأس/النادل/الشارع/ذاكرة البيت الطيني/كلاب القرية/نسيم الصبح/ورائحة البحر!!!،،ضحكات ،غنج،رائحةعطور لأمرأة لم تعرف رجلاً قط ولامرت عند الماخور لتمسح ردفيها ملاءة عانس!!
كناري يفتتح الحفلة،
عقد قران،
نورسة يخطبها بجع
حوت يحدث ضجة في الشارع
أرصفة تبكي…
اقدام تتسارع،والليل صديق!!!
حملك يثقل،تثقل أيامك بالآمال/الاحلام/الاطفال/الزوجة،همومك تتزاوج،
ليلك يعتمر الخمر لباسا منذ سني العمر الاولى،نخلة عمرك تأكل رطبها
الغربان،السوس ينخر سدرة عشقك،يأتلف الشاطيء/البحر ,,,,,,
يرمي السكران بآخر كأس للأسماك،وتأتي امرأة من أقصى الذاكرة الأسيانة،
تأخذ بيدك،تفر بأنغامك من هذا الكابوس القاتم حيث الواحات الخضر امتلأت بعرائس بحر ،
لن تنظر بعد اليوم إلى قمر سيولي الادبار مرورا بخرائب داهمها الجرذ وخلاها البوم كمسكن للضب،
تركب فرسا تروم الشمس ولاتقدر،تمضي في الدرب وحيداً،يصحبك الهم وكأس الخمر،الاطفال يغنون (ابانا الذي في …………..)
وانت على رسلك
لم تبصر الشمس سوى مرات كنت بها أشبه بالنائم،
لكن العين تراقب…وتراقب….تطفيء شمعة يوم قاس تنز الاحلام/الالام
يحاصرك اعصار من الجوع ….المرأة تتعرى ،،تتقيأ ذاكرتك ،تلتهم الارضة نهديها
،الثوب الملقى ينقلب افعى،تنساب ،تنزل سماً زعافاً،يهوي سنونو،يلعق منه،يكبر …يكبر..
يغدو عنقاء تلامس سطح الوهم بأعماقك،تمضي…..
وصديقك في الغربة روح ازلي!!!!!).
…
إن النص الابداعي في حقيقته كائن حضاريّ حيٌّ يتوجب علينا أن نحسن تسميته كما نحسن تسمية أطفالنا تماماً،وربما يتزايد الوجوب تبعاً للضرورة المعنوية وأعماق الفحوى..
من هذا المنطلق وبحسب معجم المعاني الجامع فإنّ( خرم الجلد يعني ثقبه،وخرم الثوب يعني شقه،وخرم الانف يعني شق طرفه،أو قطع وَتْرَةِ أنفه)1..
ومن الواضح إنّ هذا النص متعدد الإيقاعات،ومادام شاعرنا في حومة التداعي الحداثي النزعة،سياقاً وموسيقى ،فلا يحق لنا مطالبته باشراط عروضية استاتيكية ،فمن قبيل تسطيح الحركة الحداثية للشعر أن نحصرها في التحولات الإيقاعية وموسيقى الشعر من ضوابط البحر إلى ضوابط التفعيلة،مع علمنا بما أحدث ذلك منذ البدايات من الجدل ومشاعر الارتياب، نظراً لغياب الوعي والفهم العام للرؤى الفلسفيةوالجمالية (الاستاطيقا)،وذلك يشيع جواً من الضبابية في تماسنا مع الحداثة الشعرية، ومع ذلك مضت الحداثة إلى أبعد ما يكون،كما هي الحال في شريحة واسعة من الاعمال الشعرية المتأخرة ومنها هذا النص، تاركة القارئ والناقد معاً بانتظار ما تسفر عنه التجارب الاخيرة من الحقائق النقدية المستحدثة،حتى بتنا فيما يسمى عصر ما بعد الحداثة.
إن أهم ما أنجزته الحداثة الشعرية تلك التحولات الهائلة في قضايا عدة، لم يتحملها عقل المثقف العربي (في الكثير من المواقف)، فضلا عن القارئ العادي ، وبهذا يتوجب على الحركة النقدية القيام بدورها في الولوج وبقوة لبيان التحولات، والتي ظهرت على هيئة تساؤلات مشروعة لفهم ووعي أوسع لماهية الشعر ذاته، ليس من ناحية البنية اللفظية ،بل في جوهره الذي أقلق حالة الإلتزام بشكل القصيدة العمودية.فالشعر كما يعبر عنه (ميخائيل عيد) في كتابه (أسئلة الحداثة بين الواقع والشطح،تفجر طاقة الروح وحنين المنفصم إلى الالتحام)،هذا الحنين هو الذي شكّل حافزاً داخلياً قوياً لشاعرنا البصري،فاندفعت منه المشاعر والذكريات والافكار على هيئة تيار ينطوي على الكثير من الرؤى والإفصاحات التي تحتاج إلى وقت طويل لاستنطاقها تفصيلاً.
والشعر بذاته أو الشعر الصافي هو التفجر المطلق أو الاحتراق الذي لا يترك رماداً،في لحظات البوح الراهنة.لأنه -وهذا مافعله البصري بالضبط-قد أطلق العنان لكنوزه المتوارية،تاركاً الباب مواربة لنزوحها بحرية لافتة..
والنص الشعري في حقيقته، ليس انعكاساً صرفاً للواقع في ذات المبدع ليعاد تشكيله كما يعتقد البعض،إنما هو إعادة صياغة العلاقات بين الذات المبدعة والتجربة المعيشة، وهذا ما نجده واضحاً في أنساق ومضامين هذا النص الذي يتضمن عدة أساليب شعرية وسردية بحسب ماتقتضية حالة الإنهمار ذات النفس الطويل الواحد.وهذا ما جعله يحمل ضمنياً أيضاً الكثير من الاصوات الداخلية أو الموازية، وربما الشخصيات الضمنية أيضاً ك(العجائز-البحّار- الكأس -النادل-الشارع
-ذاكرة البيت الطيني-كلاب القرية-نسيم الصبح-رائحة البحر-أمرأة لم تعرف رجلاً قط ولامرت عند الماخور لتمسح ردفيها ملاءة عانس!!-
كناري يفتتح الحفلة-نورسة يخطبها بجع-
حوت يحدث ضجة في الشارع
-أرصفة تبكي-
اقدام تتسارع-والليل صديق!!!-الاطفال
-الزوجة-نخلة عمرك-السوس -سدرة عشقك -امرأة من أقصى الذاكرة الأسيانة)…الخ من الشخصيات والاصوات التي حضرت تلقائياً ،بل سوريالياً متدفعة كلها من الذاكرة العميقة،بما فيها من الإشارات الإيروسية العاجلة.
وهذا يعني تكراراً دقة الشاعر في تشخيص أهم ملامح البوح في هذا النص،بعد انتهاء التداعي ،وربما بعد الصحو من الحالة الشعرية المتصببة باندفاع متسارع. فلم يخلُ المشهد(بل القصيدة كلها ) من حريةالتداعي المتجلية عبر تلك اللغة الخاصة التي استخدمها الشاعر والتي تبتعد عن قصدية الاغراض البلاغية، مكتفياً بالتلميح والرمز المتكاثر المتنوع ،حد التجسيم والتشخيص ،وها هو يقول:
(تركب فرسا تروم الشمس ولاتقدر،تمضي في الدرب وحيدا،يصحبك الهم وكأس الخمر،الاطفال يغنون:أبانا الذي في …………..
وانت على رسلك
لم تبصر الشمس سوى مرات كنت بها أشبه بالحالم).
إنه يعلن بكل وضوح وبسالة طبيعة المناخ الشعري المخمور الجالب للتداعيات الشجاعة.ولكن ما أدهشنا بحق،أنّ هذا المناخ المتداعي،لم يكسر موسيقاه الداخلية وكاني به مسكون بها،بحيث تتحدم من دخيلته عفو الخاطر.وسنعود لإلقاء نظرة سريعة على هذا الجانب المهم.
إنّ تحويل السرد إلى بنى تصويرية مفعمة بالنشاط النفساني أوحى بشعرية حميمة عالية جعلت هذا النص لافتاً كاسراً للمعتاد حيث استخدم تقنيات فنية متنوعة وحديثة جعلت منه حومانة للتبئير اللافت الذي تتعدد فيه زوايا النظر بحسب ما تقتضيه
اللحظات الشعرية الضاغطة .
وذلك ما يمنح أوسع الآفاق الدلالية للرؤى والتشوفات النقدية المختلفة التي ستجد في هذا النص بوابات متعددة للتأويل ،من منطلقات متنوعة،سيكولوجية وسوسيولوجية وأيديولوجية عامة.
هكذا بات واضحاً بعد قراءة النص أن اختيار عنوان النص لم يكن إلّا عن وعي نقدي محترف كما اسلفنا،وزيادة بالحرص فنحن نجزم أن التسمية تمت بعد الانتهاء من الانثيال الكامل..
لقد نظر شاعرنا بعين الناقد إلى نصه متفرساً، فخرج بهذا العنوان الذي يمثل بحسب نظرنا كشفاً كاملًا لطبيعة المنهج الذي اختاره بما يناسب إطلاق مكنونات دخيلته في لحظة الانهمار الشعرية الراهنة بعيداً عن الكوابح والموانع..فكان التداعي الحر بحسب ” اندريه بريتون”هو الاسلوب الواضح على جميع تفاصيل هذا القصيد..
نقول ذلك لأن أول مايسترعي الانتباه عند قراءتنا لأي نص أدبي من كل جنس أو طراز هو العتبة الاولى كعنوان للفعل الابداعي يمثل البوابة المشرعة التي تطلّ على دخيلة النص بما يسهم عميقا في تسهيل مهمة القارئ من كل الشرائح الثقافية،وهي علامة المبدع الفارقة ودالة نضجه الإبداعي..
أهمية ايقاع النص:
……………………..
في الواقع إن الايقاع العام للنص
برز كظاهرة أخرى تسترعي الإنتباه أيضا.فالمعتاد إن أغلب تمظهرات التداعي السريالي كانت في النصوص النثرية خاصة على يد الرواد أمثال رامبو وبريتون ،ولكن البصري هبط من أعماقه بطريقة أخرى تختلف وتأتلف..
وكم هو جميل هذا الاختلاف بالجمع بين الموسيقى والتداعي الرائق الصادق..وتلك لعمري مزاولة لاتتيسر إلا لأصحاب الإذن الموسيقية المرهفة حد التلقائية، وقد أحسن شاعرنا بخبرته اختيار الخبب المتدفّع المتدفق من أجل أن يتوائم مع انهمار الذاكرة العليا بكل هذه التفاصيل الذاتية والموضوعية المختزنة في مركز النشاط العميق الذي كشف عالم النفس سيجموند فرويد عن أسراره الدفينة،وتلقفه من بعده واضع البيان السوريالي الاول اندريه بريتون..
وهاهو الشاعر يقول:
( المرأة تتعرى،، تتقيأ ذاكرتك)..
لقد كانت هذه الفقرة بالذات إشارة دلالية بارعة تعبر عن وجه المرآة التعريفية الثاني،بحيث أطبق الشاعر البصري بحسه النقدي المتأمل على مبنى ومعنى هذه القصيدة بما يجعلنا نقول
بأن ذاكرة الشاعر قد انهمرت مطيرة بكل هذا الجمال المموسق المحتشد بتفاصيل الحياة والواقع..
ومن دلالات عفوية الخيار الموسيقي اننا نعثر على مواضع يمد النثر خلالها إصبعه من دون أن يلمسه الشاعر او يعيد خلقه بعد البوح،بل ترك النص يتحدث عن نفسه كما هو بعيداً عن التكلف أو الإصطناع حرصا منه على براءة خامة النص،وذلك نفسه ما تلمسناه في قصيدة كاظم الحجاج الاخيرة أيضا..
ولقد ترك البصري المجال واسعاً للتأويل المتعدد الذي مايزال مفتوحاً لمن أراد الكشف عن المزيد..
……………………..
1-المقال السردي،ابراهيم عبدالقادر المازني،مجلة عالم الفكر،المجلد35،
،4ابريل يونيو،2007،ص818.
.
2-الصحاح ص 174.
غازي احمد ابوطبيخ