Views: 13
وحدانية العلاقة وأثرها في المتلقي:
رمزية العشق الإنساني بروح صوفية
قراءة تأويلية في قصيدة:
وحدك تقرأ لغتي
للشاعرة السورية
هويدا مصطفى
إن فكرة “وحدانية العلاقة” التي تتجلى في القصيدة بوضوح، تؤكد على أن المخاطب هو الوحيد الذي يفهم لغة الشاعرة ويتلقى معانيها، وهذا له تأثير عميق على المتلقي لعدة أسباب:
* إثارة الفضول والتعاطف: يبدأ القارئ بالشعور بالفضول تجاه هذا الشخص المميز الذي يحتل هذه المكانة الفريدة في حياة الشاعرة. كما أنه قد يتعاطف مع الشاعرة ويقدر قيمة هذه العلاقة الحصرية.
* التأكيد على عمق المشاعر: حصر الفهم في شخص واحد يوحي بعمق المشاعر التي تكنها الشاعرة لهذا الشخص. هذا يعزز من قوة الحب والشوق التي تتخلل القصيدة وتجعلها أكثر تأثيراً.
* خلق جو من الخصوصية والحميمية: هذه الوحدة في الفهم تخلق جواً من الخصوصية والحميمية يدخل إليه القارئ كأنه يسترق النظر إلى عالم خاص جداً بين شخصين. هذا قد يثير لديه مشاعر الشوق إلى علاقة مماثلة أو تقدير للعلاقات الحميمة في حياته.
* تعزيز فكرة الارتباط الروحي: عندما يكون شخص واحد قادراً على فهم لغة قلب الشاعرة، فهذا يدل على وجود رابطة روحية عميقة تتجاوز الكلمات السطحية. هذه الفكرة تلامس الحاجة الإنسانية للاتصال العميق والفهم المتبادل.
* إبراز قيمة الفرد في العلاقة: التركيز على وحدانية الفهم يبرز قيمة هذا الفرد وأهميته في حياة الشاعرة. هذا قد يدفع القارئ إلى التفكير في الأشخاص الذين يمثلون هذا الدور في حياته أو يتمنى وجودهم.
* إمكانية الإسقاط والتماهي: قد يجد بعض القراء أنفسهم في هذا الموقف، حيث يشعرون بأن هناك شخصاً واحداً في حياتهم يفهمهم بعمق. هذا يمكن أن يؤدي إلى تماهي القارئ مع مشاعر الشاعرة وزيادة تفاعله مع النص.
لذا، فإن تأكيد القصيدة على وحدانية العلاقة تخلق لدى المتلقي مزيجاً من الفضول، التعاطف، والتقدير لعمق المشاعر والروابط الروحية، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر قوة وتأثيراً.
القصيدة بهذا المعنى الايحائي المتفرد يعكس بعمق مشاعر الحب والشوق واللهفة تجاه شخصٍ تعتبره المتحدثة محور عالمها.
يبدأ النص بالتأكيد على تفرد هذه العلاقة، حيث أن المخاطب هو الوحيد كما أشرنا سابقا القادر على فهم لغة الشاعرة الداخلية. هذا يخلق جواً من الخصوصية والعمق في التواصل بين الطرفين.
يتجلى حضور المحبوب في كل تفاصيل حياة الشاعرة، حتى في لحظات الشرود وبين جمال الورود. يصبح المحبوب قوة قادرة على بعثرة الشوق، مما يدل على تأثيره العميق على مشاعر الشاعرة، فتشعر الشاعرة حينها بأن الكون بأسره يحاصرها، مما يوضح مدى أهمية هذا الشخص وتأثير كلماته. فتلجأ الشاعرة إلى تجميع ذاتها في حضرة هذا التأثير القوي.
لكن طيف المحبوب يظل يلاحق الشاعرة ويطوقها ويحاصرها أينما توجهت، حتى في الأماكن التي تحاول فيها الاختفاء (أرمي ظلي). هذا يعكس تعلقاً روحياً عميقاً. لتصوّر الشاعرة المحبوب كمسافر يستكشف أعماقها الداخلية (مدائن صمتي)، يجمع أجمل ما فيها (الورد من جنائن خدي) ويزرع الشوق من جديد.
إلا أن هذه العلاقة تظل بريئة براءة طفل يلهو على وسادة ثغر “تسرحُ جدائلي بأصابعِ اللهفةِ وتمضي كطفلِِ يلهو على وسادةِ ثغري”، مما يضفي عليها لمسة من العفوية والرقة. فتعلم الشاعرة من خلال هذه اللحظات كيف تكون مرحة ومتحررة في حضرة هذا الحب، معبرة عن حنينها بشجاعة وعنفوان (كعاصفة تحاصرك). فيصبح بعدها الكون وكأنه يتقمص مشاعر الشوق واللهفة، حتى الليل يتنهد ويجمع الضوء من فجر الشاعرة، مما يوحي بأن هذا الحب قد أثر على كل شيء حولها.
تعترف الشاعرة بأنها متورطة في هذا العشق إلى درجة الجنون، وليس هناك أي محاولة لمحو هذه الذاكرة المحفورة.
يتم بعدها تصوير الحب كأنه ترتيل للصلوات وكقبلة مشتعلة، مما يرفع من قيمة هذا الشعور ويجعله مقدساً وعاطفياً في آن واحد.
بشكل عام، القصيدة تعبر عن تجربة حب عميقة ومسيطرة، حيث يصبح المعشوق هو العالم بأكمله، تتداخل المشاعر الروحية والعاطفية لتشكل صورة قوية عن هذا الارتباط الفريد.
من هذا المنطلق يمكن قراءة هذه القصيدة على مستوى رمزي صوفي، حيث يمثل المحبوب رمزا للذات الإلهية، والشوق واللهفة والوحدانية تعبر عن رحلة الروح المتصوفة نحو الوصول إلى الحق. اللغة الحميمة والعاطفية المستخدمة في القصيدة تتوافق مع الأسلوب الذي يتبعه العديد من الشعراء الصوفيين للتعبير عن تجربتهم الروحية العميقة والمباشرة مع الخالق سبحانه، كونه الوحيد القادر على قراءة وإدراك الأسرار وما أخفى..”وحدك تقرأ لغتي”: فهذه العبارة تشير إلى العلاقة الفريدة والخاصة بين المحب والمحبوب، والتي يمكن أن ترمز في التصوف إلى العلاقة بين العبد والله،
حيث استخدم الكثير من الشعراء الصوفيين لغة الحب البشري للتعبير عن العلاقة الروحية بين العبد وربه.
وهذا ما تأكد عليه القصيدة كون المخاطب هو الوحيد الذي يفهم لغة الشاعرة، الشيء الذي يجعل القصيدة توازي هذا التصور الصوفي، حيث أن قلب المتصوف لا يلتفت إلا إلى المحبوب الإلهي.
كما أن المحبوب في القصيدة حاضر في كل تفاصيل حياة الشاعرة، ففي التصوف، يشعر الصوفي بحضور الله في كل مكان وزمان، وأنه المؤثر الفاعل في كل شيء:
“حينَ تُحاصرُني أسئلتكَ يُحاصرُني الكونُ”: أسئلة المحبوب قد ترمز إلى التحديات والاختبارات الروحية التي يواجهها السالك في طريق التصوف، حيث أن كل ما في الكون يصبح مرتبطاً بهذه العلاقة الروحية:”طيفُكَ يلاحقُني..يُطوقني يضمُّني”.
كما أن شوق الشاعرة للقاء المحبوب يشبه إلى حد كبير شوق المتصوف ولهفته للوصول إلى حالة الوصال”أنَّكَ قادرُُ على بَعثرَةِِ الشوقِ بأكمامِ العشقِ”.
كما يمكن تأويل دور المحبوب في تلقين الشاعرة الشقاوة واكتشاف جوانب جديدة في ذاتها على أنه شبيه بدور المرشد الروحي (الشيخ الصوفي) الذي يقود المريد في رحلته نحو الحق. يجعل العشق المتورطة به الشاعرة “حد الجنون” يمكن أن يرمز إلى التجرد والتفاني الكامل في سبيل الوصول إلى المعرفة الإلهية. وإلا كيف يمكن أن يصبح الحب نفسه شكلاً من أشكال العبادة والتواصل الروحي العميق مع المطلق، وهو مفهوم أساسي في التجربة الصوفية( تشبيه الحب كصلاة وعبادة).
وأن “الكونُ – بأكمله- يستعيرُ قمصانَ اللهفةِ يتنهَّدُ الليلُ يلملمُ عناقيدَ الضوء من رحيقِ فجري”: استعارة الكون لقمصان اللهفة وتنهد الليل ولملمة الضوء من الفجر للإشارة إلى أن كل مظاهر الوجود تشارك في هذا الشوق والحنين نحو المحبوب.
وفي الختام، يمكن القول إن القصيدة التي بين أيدينا تقدم تجسيداً شعرياً رائعاً لعلاقة حميمة وعميقة، تحمل في طياتها إمكانية التأويل الصوفي، حيث يتجلى الحب الإنساني كمرآة تعكس الشوق والاتصال الروحي بالمطلق. تبقى الكلمات شاهداً على قوة العشق وسر وحدانية الفهم التي تربط بين قلبين، سواء كان ذلك في سياق بشري أو روحي أسمى.
سعيد محتال
المغرب
النص:
وحدك تقرأ لغتي
مازلتُ ألملمُ شرودي
من بينِ أغصانِ الورودِ .
أدوِّنُ على صدرِ البحرِ
أنَّكَ قادرُُ على بَعثرَةِِ الشوقِ
بأكمامِ العشقِ …
حينَ تُحاصرُني أسئلتكَ يُحاصرُني
الكونُ .. ألملمُ بعضي ببعضِي
و طيفُكَ يلاحقُني..يُطوقني
يضمُّني حيثُ هُناك أرمي ظِلِّي..
و أنتَ المسافرُ في مدائنِ صمتي
تلملمُ الوردَ من جنائنِ خدِّي
و تَزرعُني على صدرِ الشوق
تسرحُ جدائلي بأصابعِ اللهفةِ وتمضي
كطفلِِ يلهو على وسادةِ ثغري ..
علمَني كيفَ أكونُ تلكَ الشقيَّةَ
كيفَ أفتِّشُ عيونَ القلبِ
وأعبرُ إليكَ كعاصفةِِ تحاصرُكَ
معلنةََ حنيني إليك…
مذَ عرفتُك والكونُ يستعيرُ
قمصانَ اللهفةِ ..
يتنهَّدُ الليلُ يلملمُ عناقيدَ الضوء
من رحيقِ فجري…
متورطةُُ بعشقِكَ حدَّ الجنونِ ..
وكلُّ مدائنِ الخوفِ لن تمحي ذاكرتي
التي أسميتُها باسمكَ …
يا منَ علمتني كيفَ أرتّلُ صلواتِ حُبِّكَ
كقُبلةِِ مُشتعلةِِ على شفاهِِ تُمطرُ عِشقاً
الشاعرة هويدا مصطفى
سوريا