Views: 4
ملحمة البيروقراطية في زمن الفوضى
=========================
تناقل رواد المقهى الشعبي شائعة غريبة: (زغير السكير) أصبح مديرا لإحدى المؤسسات الحكومية .
ضج المكان بالضحك، وانفجر أحدهم بالقهقهة حتى اختنق بسجارته الرخيصة، فالخبر لا يمكن أن يكون إلا نكتة سمجة.
في اليوم التالي،نزل زغير من سيارة سوداء مظللة أمام مبنى يحمل لافتة عجيبة: (مؤسسة دعم المشاريع الوهمية) .
مرتديًا بدلة فضفاضة وربطة عنق ملفوفة على عجل، ينفث دخان سيجارته كما يفعل أبطال الأفلام حين يخسرون كل شيء.
دخل المبنى بخطى مترنحة، ثم صرخ وهو يلوّح بالسيجارة:
ــ أنا المدير الجديد.
تفحص سجل الحضور، نظر إليه بازدراء، ثم قال بحزمٍ مرتبك:
ــ ما أريده ليس توقيعًا على الورق، بل بصمة حرارية وابتسامة مصدّقة من( شعبة الشعور بالمسؤولية).
وهكذا بدأت مرحلة جديدة من البيروقراطية، لم يشهد لها تاريخ الإدارة مثيلاً.
أصدر قرارات صارمة: لا يغادر أحد مكانه إلا بإذن مصدق من ثلاث جهات:
ـ شعبة الطقس (للتأكد من ملاءمة الجو للخروج)،
ـ شعبة نوايا الخروج (للتأكد من أن الموظف ذاهب فعلًا لدورة المياه)،
ـ وشعبة التأمل الإداري (لمراجعة جدوى الخروج أصلًا).
عندما يطلب موظف ما منحه وقتا للصلاة، عليه تعبئة استمارة بثلاث نسخ:
واحدة لديوان الرؤية،
ثانية لحارس البوابة،
وثالثة توضع في ملف (الروحانيات الطارئة).
أنشأ لجنة خاصة لمتابعة كل إنجاز يتم قبل أوانه، وأعلن في إعمام رسمي:
ــ السرعة في الإنجاز مؤامرة على روح البيروقراطية ، العمل المبكر يثير الشكوك، والإنتاج السريع خيانة للروتين.
أصبح الموظفون يخفون تقاريرهم، يؤجلون الأعمال عمدًا، ويبتسمون بوجل إن تلقّوا مديحًا، خشية أن يعتبرهم المدير متآمرين على النظام.
صار لكل شيء نموذج:
ـ تريد قلمًا؟ عبئ نموذج (3/أ).
ـ تطلب إجازة؟ نموذج (7/د).
ـ تود التزام الصمت أثناء الدوام؟ نموذج (14/س) بعد موافقة وحدة الضمير المهني.
إذا فقدت النموذج؟
تبدأ رحلة المتاهة:
(طلب استخراج طلب)،
ثم (طلب متابعة الطلب)،
وأخيرًا شهادة رسمية( تثبت أنك ما زلت حيًا وتعمل).
ذات يوم، رأى زغير فأرة الحاسوب على مكتب أحدهم، فتجهم وقال:
ــ ما هذا الحيوان بلا ذيل؟ من سمح له بالدخول؟
وحين حاول الموظفون افهامه انه جهاز إلكتروني، لم يقتنع، بل أمر بفحصه من قبل( وحدة السلامة البيولوجية) ، ثم صاح متحديًا:
ــ أنا المدير ومن حقي أن أفهم كل شيء.
في الذكرى السنوية لتعيينه، أقيم احتفال باهت، حضره موظفون بلا وجوه، شاحبو الأرواح، منهكون من تفادي الشبهات.
وقف زغير يخطب، وصرخ بفخر:
ــ لقد نجحنا حقا، لا أحد يعمل، لا أحد يعترض، والبيروقراطية في أوج مجدها اليوم.
بعد فترة وجيزة ، صدر قرار وزاري بإعفائه بسبب: (كفاءته الزائدة عن الحاجة)
عاد زغير إلى المقهى، جلس بين أصدقائه، متحدثا بزهو فارغ ، وقال:
ــ أنا الوحيد الذي طبّق البيروقراطية حرفيًا… وحافظ عليها لتبقى… إلى الأبد.
عبد الكريم حمزة عباس
=================