Views: 2
قراءة في قصيدة الشاعر الكبير
أ. خالد خبازة Khaled Khabazeh
عقد لا يقبل النقد
عقد .. لا يقبل النقض
من الطويل .. و القافية من المتواتر
منحنا جمال الخلق بالخافق النبضا
فرحنا بدرب الحب نقطعه ركضا
و ليس بفعل الخير يرتفع الفتى
اذا لم يكن للخير يخلصه محضا
خفضنا جناح الذل للود رحمة
فزاد بنا خفقا .. وزدنا له خفضا
وها نحن نسعى والمعالي عزيزة
وفي طلب العلياء عل العلى ترضى
ومن جاء يدعونا لبر ورحمة
بكون لنا سقفا .. و كنا له أرضا
لنا الكف رغم العوز مبسوطة الندى
وان هي الا البحر لا يحسن القبضا
ولو مثل الاخلاق في هيئة امرئ
جعلنا له قلبا .. و كنا له النبضا
نحب امور الناس .. نبغي ودادهم
لنا القلب رهن الحب لا يعرف البغضا
فان نال بعض القوم بأس و شدة
فعيني من اللأواء لما تذق غمضا
و أعفو و ان جار المسيء بغيه
فابرم عقد الود .. لا يقبل النقضا
وقد ارهن الاخلاق قلبي و مهجتي
لعل فؤادي بالعلى غانما يرضى
وكنت كنسر .. لا يبالي بجارح
اذا ما رأى صيدا تسامق فانقضا
ولاح زمان للعلى ينشد النهى
فعاشت بنا أخلاقنا زمنا غضا
رشفنا به الامجاد والرأس اسود
وعدنا وكان الراس اشيب مبيضا
وارفض نأي الأصدقاء فان نأوا
وجدت لها الأعذار لا تقبل الرفضا
ولو اننا ندعى لمجد و رفعة
سنقطعه طولا ونطوي له العرضا
وأنسج أشعاري من القلب نبضها
الى القلب تسعى حين اقرضها قرضا
خالد ع . خبازة
قصيدة: “عقدٌ لا يقبل النقض”
في زمنٍ تكاثرت فيه العهود المنكوثة، وتكاثرت فيه الأقنعة حتى غابت ملامح الوجوه…
يطلّ هذا النصُّ كوثيقةٍ خُلقت من جوهر الوفاء، لا يعتريها نكوص، ولا تشوبها ريبة.
قصيدةٌ مشدودة إلى أعمدة الأخلاق، مشرعةٌ للضياء، تمضي في مدارج النُبل بخطى من صدقٍ وعزيمة، كأنها طيرُ العُلى يحلّق بأجنحة من سجايا لا تُشترى.
هنا، تتجلّى كلمة الشاعر الكبير أ.خالد خبازة عقدًا أبديًّا، لا تنفصم حلقاته، وقد سُكبت أبياته من معين القلب، لا تبتغي جزاءً سوى أن تظلّ الفضيلة على عرشها، باسقةً كالرايات الخفاقة.
إنه ميثاق من الكلمات، فيه للقيم موطن، وللحبّ رسالة، وللإنسان وجهٌ ناصعٌ يليق بسُلالة الروح الأولى.
من جمال الخَلق إلى سموّ الخُلق، يكتب الشاعر قصيدته ليُذكّر… بأنّ العظمة ليست في الصوت الجهير، بل في اليدِ المبسوطة، والعين الساهرة، والقلب الرقيق الذي لا يعرف غير الصفح مذهبًا.
هذه القصيدة مسار، وموقف، وعقدٌ لا يقبل النقض.
“عقدٌ لا يقبل النقض
من الطويل .. و القافية من المتواتر”
هنا يستهلّ الشاعر قصيدته بإعلان صريح وواعٍ: أن ما سيأتي هو ميثاق لا يُكسر، وعهد لا يُنقض. أما من الناحية العَروضية، فهو يخبرنا أن القصيدة على بحر الطويل، بقافية من بحر المتواتر، تمهيدًا لانضباط النبض الشعري وصرامة الفكرة.
“منحنا جمال الخلق بالخافق النبضا
فرحنا بدرب الحب نقطعه ركضا”
لقد أُعطينا جمالًا في الخلقة، ونبضًا في القلب، وهذا الجمال كان باعثًا للحياة. ومن فرط محبتنا للحب والخير، انطلقنا في دربه بسرعة، لا تردد فيها ولا توانٍ، وكأننا نركض وراء قيمة عزيزة على الروح.
“و ليس بفعل الخير يرتفع الفتى
اذا لم يكن للخير يخلصه محضا”
يُبين هنا الشاعر أن قيمة الإنسان لا تكمن في مجرّد فعل الخير، بل في صدق النية ونقاء الدافع. فالمخلص وحده، لا المتظاهر، هو من يعلو شأنه.
“خفضنا جناح الذل للود رحمة
فزاد بنا خفقا .. وزدنا له خفضا”
الشاعر يقول: تواضعنا للمحبين وذللنا أنفسنا لهم بدافع الرحمة والمودة، لا من ضعف أو هوان. وهذا التواضع النابع من القلب جعل المحبة بيننا تنمو أكثر، فازداد خفق قلوبنا بها، وكلما زاد الحب، زاد تواضعنا وحناننا.
“خفضنا جناح الذل”: تعبير قرآني يعني التواضع بلطف ورحمة، وليس الذلّ بمعناه السلبي.
“وها نحن نسعى والمعالي عزيزة
وفي طلب العلياء عل العلى ترضى”
ونحن في درب العزيمة لا نمل من ان نسعى نحو المعالي، رغم صعوبتها وندرتها. لعل هذا السعي، في سموه، يُرضي علياء القيم ورضا الله، فالسعي في ذاته غاية.
“ومن جاء يدعونا لبر ورحمة
بكون لنا سقفا .. و كنا له أرضا”
من يحمل الخير في يده، ويطرق أبوابنا بنية البرّ والرحمة، نفتح له قلوبنا، فيكون لنا سقفا، ونكون له الأرض التي يستند عليها، فالعطاء متبادل، والمودة متجذّرة وهذا ما يبني السلام .
“لنا الكف رغم العوز مبسوطة الندى
وان هي الا البحر لا يحسن القبضا”
حتى في وقت الحاجة، لا تُغلق أيدينا عن الكرم، بل تظلّ مبسوطة، تسكب الندى على من يحتاج. فنحن كالبحر، لا يجيد القبض ولا يعرف الإمساك، بل يفيض دون حساب.
“ولو مثل الاخلاق في هيئة امرئ
جعلنا له قلبا .. و كنا له النبضا”
لو تجسّدت الأخلاق في شخص حيّ، لكنا له القلب النابض، ولجعلنا له وجداننا، لأننا لا نرى الأخلاق شيئًا منفصلًا عنا، بل نحن الأخلاق الحميدة الكريمة الفاضلة .
“نحب امور الناس .. نبغي ودادهم
لنا القلب رهن الحب لا يعرف البغضا”
محبتنا للناس ليست مصلحة، بل فطرة فينا، نزهو بها ونُهديها بسخاء. قلوبنا بكل الحب، لا تعرف البغض ولا تحمله، كأنها وُلدت للسلام والوصال فقط.
“فان نال بعض القوم بأس و شدة
فعيني من اللأواء لما تذق غمضا”
حين يرى الشاعر قومًا يعانون من الشدة، لا يغمض له جفن. يتألّم كما لو أنه في قلب الحدث، فالعين ساهرة، والروح متضامنة.
“و أعفو و ان جار المسيء بغيه
فابرم عقد الود .. لا يقبل النقضا”
يعلو الشاعر على الجراح والإساءة له ، فيغفر حتى للمسيء، ويثبت على المودة كمن يُبرم عقدًا أبديًا لا يقبل فكاكًا. هذه ذروة العظمة الإنسانية.
“وقد ارهن الاخلاق قلبي و مهجتي
لعل فؤادي بالعلى غانما يرضى”
يرهن الشاعر قلبه ومهجته للأخلاق، رهنًا لا رجوع فيه، آملاً أن يكون هذا الإخلاص سببًا في نيل رضا السماء وعلوّ الروح.
“وكنت كنسر .. لا يبالي بجارح
اذا ما رأى صيدا تسامق فانقضا”
شخصية الشاعر شامخة كنسر، لا يعبأ بالجراح الصغيرة أو بمن يؤذيه، فهو لا يلتفت إلا لما يسمو، وإذا وجد هدفًا نبيلًا، انقضّ عليه بكل عزيمته.
“ولاح زمان للعلى ينشد النهى
فعاشت بنا أخلاقنا زمنا غضا”
جاء زمنٌ تاقت فيه العقول للحكمة، فكانت الأخلاق حاضرة ببهائها، نضرةً بشبابها، تعيش وتحيي من خلالها كل من حولها.
“رشفنا به الامجاد والرأس اسود
وعدنا وكان الراس اشيب مبيضا”
في شبابنا، تذوقنا المجد، والشعر مازال اسودا يافعا ، ولما مرّ الزمان ومرّت الأيام، غدت الرؤوس شيباء، لكن القلب بقي مشبعًا بالعز والكرامة.
“وارفض نأي الأصدقاء فان نأوا
وجدت لها الأعذار لا تقبل الرفضا”
حين يبتعد الأحبة، لا يلومهم الشاعر، بل يُفتّش عن الأعذار التي تحفظ لهم الود، يخلق ألف سبب ليغفر، ولا يقبل الرفض قلبه.
“ولو اننا ندعى لمجد و رفعة
سنقطعه طولا ونطوي له العرضا”
لو دُعينا للعلاء والمجد، لن نكتفي بالسير نحوه، بل سنخترق الطريق طولًا وعرضًا، بشجاعة لا تعرف الكلل والملل ، فالمجد غايتنا.
“وأنسج أشعاري من القلب نبضها
الى القلب تسعى حين اقرضها قرضا”
الشاعر ينسج شعره من خيوط قلبه، نبضًا بنبض، وما إن يخرجها إلى الوجود، حتى تسري مباشرةً إلى قلوب من يسمعها، لأنها صادقة، لا تتزين بالتكلف.
قصيدة تنبض خلقًا، وترتفع كمنارة للقلوب الصافية. هي أكثر من شعر، إنها بيان شرف، ومرآة روح عرفت الحب والتسامح والعطاء، فوهبته كل ما تملك… حتى الكلمة.
في زمن التقلُّب والتكالب على المظاهر، تأتينا هذه القصيدة كنبضٍ نقيٍّ من أعماق الشعر الحقيقي، حيث تُنسَج الحروف لتُطهّر، و لتُعلّم.
ليست وعظًا، بل انسيابٌ وجدانيٌّ مشحون برؤية إنسانية سامقة، تُحلّق فيها القيم على جناحي الإبداع.
العنوان بذاته بيان افتتاحي يحمل طابعًا قانونيًّا أخلاقيًّا، فيه صرامة وثبات، كأن الشاعر يُبرم عهدًا بينه وبين القيم الإنسانية، وهو عقدٌ لا يُمحى، ولا يُراجع، ولا يتزعزع. هذا العنوان هو البنية الفلسفية التي ستحكم القصيدة من أول بيت حتى نهايتها.
اختار الشاعر بحر الطويل، وهو بحر ذو نفس شعريٍّ عميق وطابع وقور، يناسب المواضيع الكبرى من فخر وأخلاق وفلسفة.
أما القافية المتواترة، فكانت ذات جرسٍ ساكنٍ رزين، عزّز الشعور بالوقار والرصانة، وجعل القصيدة أشبه بتلاوة وجدانية لميثاق شرفٍ شعريّ.
اللغة هنا هي سبيكة مطعّمة بالذهب الشعري. فقد جمع الشاعر بين فصاحة الجملة وحرارة العاطفة، وبين سلاسة الموسيقى الشعرية وعمق الحكمة.
استُخدمت ألفاظ مثل: خفض الجناح، الندى، البأس، المهجة، الرضا، الصيدا، العلى، الأخلاق… وهي كلمات تنتمي إلى حقلٍ دلاليٍّ نبيل، وتستدعي صورة الإنسان الكامل، المتسامح، الشامخ.
واللافت أن الشاعر تجنّب المفردات الجارحة، أو التشبيهات الصادمة، فكل شيء هنا رقيق لكنه قوي .. هادئ لكنه عميق، كمن يهمس في الضمير لا يصيح في الميدان.
القصيدة ترتكز على منظومة متكاملة من القيم، يمكن تلخيصها في:
الكرم: “لنا الكف رغم العوز مبسوطة الندى”
المحبة: “نحب أمور الناس.. نبغي ودادهم”
الصفح: “وأعفو وإن جار المسيء بغيه”
التواضع: “خفضنا جناح الذل للود رحمة”
الوفاء: “وجدت لها الأعذار لا تقبل الرفض”
الطموح: “ولو أننا ندعى لمجد ورفعة / سنقطعه طولا ونطوي له العرضا”
هذه القيم تشكّل لوحة فسيفسائية متكاملة، تذكّرنا بشعر الحكمة عند زهير بن أبي سلمى، وبروح التصوّف في شعر ابن الفارض، لكنها هنا مُعاصَرة وخالية من التكلّف.
ما يُميّز هذه القصيدة أن الصور فيها ليست متكلفة ولا بعيدة المنال، بل بسيطة لكنها عميقة، ومنها:
“كنا له القلب.. وكنا له النبضا” → صورة حسيّة وجدانية تربط الأخلاق بالنبض، كأنها حياة بحد ذاتها.
“أنسج أشعاري من القلب نبضها” → استعارة خيوط الشعر من نبض القلب، تؤكد أن القصيدة وليدة الروح لا الحبر.
“وكنت كنسر لا يبالي بجارح” → تشبيه القوة بالنسور، يوحي بشخصية ذات هيبة لا تعبأ بالصغائر.
الصور هنا تندمج في نسيج القصيدة و تتناغم مع البناء الدلالي العام.
القصيدة تُوجّه خطابها إلى ذات الشاعر أولًا، لكنها تنفتح على “نحن”، فتغدو صوتًا جماعيًّا ينطق باسم كلّ من يعتنق القيم، وكأنها دعوة مفتوحة لأن نكون كما يجب أن يكون الإنسان.
القصيدة تؤدي دورًا أخلاقيًّا وفلسفيًّا، يليق بما نسميه
“الشعر الرسالي”، حيث الكلمة موقف، والقصيدة نهج حياة. إنها دعوة للارتقاء، وللبحث عن إنسانيتنا في ظل القسوة المعاصرة.
“عقدٌ لا يقبل النقض” مرآة روح نبيلة، وشهادة شعرية على أن الجمال لا يكتمل دون أخلاق، وأن الفن حين يُصاغ من نُبل، يُصبح أصدق من القانون، وأبقى من الشعارات.
نصّ يُحتفى به، ويُدرّس، ويُنقش في ذاكرة كل من يرى في الكلمة ضميرًا وفي الشعر رسالة.