Views: 3
قراءة في قصيدة ” أدمنت همسك ”
للشاعرة القديرة حياة قالوش Hayat Kalouche
أدمنتُ همسكَ
أدندنُ الآن والأطيارُ في كفّي
ويشهدُ النجمُ كمْ دنياكَ لي تكفي
ففي فؤادي ضياءٌ فاحَ من حلُمٍ
وها أنا أرتدي صوتي ولا أُخفي
أدمنْتُ همْسكَ يُحييني ويُسكِرُني
سكبتُ منه على ثغرٍ الندى حرفي
أهيمُ لحنًا وأهذي بالصدى ولهًا
إنّي وُلدتُ مِنَ النايات ِوالعزفِ
إن جئتَ منكسرًا أعطيكَ أجنحتي
إليكَ أمشي بلا خوفٍ ولا ضعفِ
مازلتُ أنسجُ من عينيكَ أغنيتي
لو أنّ قلب الهوى يبدو بلا طرْفِ
لا ، لا تلمْني إذا ما البوحُ أرهقني
فالصمتُ نار ٌ، كما لو خلفَها حتْفي
كمْ كنتُ أرغبُ أن نحيا بلا أسفٍ
ونجعلَ الحبّ حلمًا عاليَ السقْفِ
أشقى ببعدِكَ لكنّي على ثقةٍ
أُطفي الزمان ولا هذا الهوى أطفي
كمْ ، كمْ أحبّكَ مُذْ كان المدى ولدًا
يهزُّ نبضي اشتياقٌ خارجَ الوصفِ
أراكَ في وجه طفلٍ نامَ مرتجفًا
يحتاجُ منّي إلى نزرٍ من العطفِ
تبقى لأنّكَ في الوجدان زنبقةٌ
تُروى ، وتُزهرُ في الأحزان كالنزفِ
مازال للعمرِ أحلامٌ نعيشُ بها
كمْ أطلقَ الحبُّ في الأحلام من دفِّ
كمْ من رؤىً سكنتْ روحي وما رحلتْ
فهل تُرى تُمرِضُ الأيّامُ أم تُشفي ؟
أمضي إليكَ وفي لقياكَ منطلقي
لأجله كلُّ شيءٍ عفتُه خلْفي
هنا تتوضّأ الكلمات من نبع القلب …
حيث يتعانق الحلم مع الجرح …
تخرج قصيدة الشاعرة حياة قالوش كما لو كانت سِرًّا شفيفًا بين الروح والهوى.
بوحٌ لا يعرف الصمت، واعترافٌ يتهادى على أوتار العاطفة العميقة، فتغدو الحروف كائناتٍ من نور، تحلّق بأجنحة وتُعلن أن للحبّ قدرة على أن يبعث الحياة حتى في أكثر اللحظات وجعًا.
هذه القصيدة، لا يكتفي النصّ بترتيل الأشواق، بل يرسم لوحة من التوق والإصرار، حيث يتجاور الانكسار مع القوة، والبعد مع الوفاء، والوجع مع الأمل.
إنّها نشيدُ عاشقةٍ وجدت في البوح خلاصها، وفي الهمس وطنها، وفي حضور الحبيب حياةً ثانية تُقاوم بها قسوة الزمن.
قصيدة “أدمنتُ همسك” هي سفرٌ وجدانيٌّ يرافق القارئ من مطلعها إلى ختامها، لتتركه غارقًا في عبيرها، ويكتشف أن الشعر حين يخرج من قلبٍ مُمتلئ بالصدق، حيث يصبح حياةً كاملة تنبض في السطور.
أدندنُ الآن والأطيارُ في كفّي
ويشهدُ النجمُ كمْ دنياكَ لي تكفي
شاعرتنا تبدأ بالغناء، كأنها تحمل الطيور في كفّها، رمزًا للحرية والانطلاق.
النجم شاهدٌ على أن عالم الحبيب وحده يكفيها عن الدنيا كلها.
ففي فؤادي ضياءٌ فاحَ من حلُمٍ
وها أنا أرتدي صوتي ولا أُخفي
من قلبها يفيض نورٌ ودفء، ولأنها امتلأت بالحلم، فإنها تُعلن صوتها ولا تخشى الاعتراف بالحب.
أدمنْتُ همْسكَ يُحييني ويُسكِرُني
سكبتُ منه على ثغرٍ الندى حرفي
همسه يحييها وسكر يذهلها
ومن هذا الهمس العذب استقت حروف قصيدتها ، فجعلت كلماتها ندى يترقرق على شفاه الفجر
أهيمُ لحنًا وأهذي بالصدى ولهًا
إنّي وُلدتُ مِنَ النايات ِوالعزفِ
الحب جعلها هائمة، ولدت من لحن الناي .
فوجودها ذاته مولودٌ من موسيقى، من النايات والأنغام ،تهذي في نشوة الصدى عاشقة حتى الذهول .
إن جئتَ منكسرًا أعطيكَ أجنحتي
إليكَ أمشي بلا خوفٍ ولا ضعفِ
تعِد الحبيب بأنها سندٌ له، تمنحه جناحيها ليطير، وتسير نحوه واثقة قوية بلا وجل.
مازلتُ أنسجُ من عينيكَ أغنيتي
لو أنّ قلب الهوى يبدو بلا طرْفِ
أغنيتها الأبدية منسوجة من عينيه، كأن العيون تصير قيثارة، حتى لو كان قلب العاشق معصوبًا أو محرومًا من النظر.
لا ، لا تلمْني إذا ما البوحُ أرهقني
فالصمتُ نار ٌ، كما لو خلفَها حتْفي
هي لا تستطيع كتمان هذا الحب فالصمت عذاب قاتل والبوح به حياة والصمت موتٌ بطيء.
كمْ كنتُ أرغبُ أن نحيا بلا أسفٍ
ونجعلَ الحبّ حلمًا عاليَ السقْفِ
تتمنى حبًا نقيًا، بلا ندم، يسمو عاليًا كالحلم يظللها بسموه ويقيها من الانكسارات .
أشقى ببعدِكَ لكنّي على ثقةٍ
أُطفي الزمان ولا هذا الهوى أطفي
الفراق مؤلم، لكنها واثقة أن حبها لا ينطفئ، ومستحيل أن يخمد حتى لو انطفأت الأيام والسنوات.
كمْ ، كمْ أحبّكَ مُذْ كان المدى ولدًا
يهزُّ نبضي اشتياقٌ خارجَ الوصفِ
حبها قديم، منذ فجر الأشياء، منذ أن كان الكون وليدًا، واشتياقها إليه يتجاوز حدود الكلمات و اللغة .
أراكَ في وجه طفلٍ نامَ مرتجفًا
يحتاجُ منّي إلى نزرٍ من العطفِ
ترى ملامح الحبيب في في وجه طفلٍ خائفٍ يبحث عن دفء وحنان كأن حبها يتخذ كل صور الضعف والبراءة
تبقى لأنّكَ في الوجدان زنبقةٌ
تُروى ، وتُزهرُ في الأحزان كالنزفِ
الحبيب زنبقة مغروسة في روحها، تزهر حتى في الحزن بل تزهر وسط الجراح مثل نزف جميل يورق بالحياة .
مازال للعمرِ أحلامٌ نعيشُ بها
كمْ أطلقَ الحبُّ في الأحلام من دفِّ
الأحلام هي ملاذها، والحب فيها مثل الدفّ الذي يبعث أنغامه .. حياة وفرح.
كمْ من رؤىً سكنتْ روحي وما رحلتْ
فهل تُرى تُمرِضُ الأيّامُ أم تُشفي ؟
كثيرة هي الرؤى التي سكنت روحها وما غادرتها ، وهنا تساؤل مرير
هل الأيام تداوي الجروح ، أم تزيدها مرضاً؟
أمضي إليكَ وفي لقياكَ منطلقي
لأجله كلُّ شيءٍ عفتُه خلْفي
تختتم أبياتها بوعد وبسمة ويقين حيث تمضي إليه
ومسيرتها كلها تنتهي عنده، فلقائه هو الغاية.
وكل شيء وراءها لا يهم، لأنها اختارت أن يكون هو البداية والنهاية فلا قيمة لشيء سواه .
قصيدة “أدمنتُ همسكَ” تنفتح على فضاءٍ شعوري عميق، حيث تتجلّى الذات العاشقة في حالتها الأكثر صفاءً وتوهجًا، إذ يتقاطع فيها الغناء مع البوح، والحنين مع الأمل، والوجع مع يقينٍ لا ينطفئ. إنها قصيدة حب ، تكتبها الشاعرة بلغةٍ مشبعةٍ بالمجازات الموسيقية والصور الوجدانية.
تأسّست القصيدة على ثنائية الحضور والغياب.
ففي حضور الحبيب نجد الامتلاء: “ويشهد النجم كم دنياك لي تكفي”، “مازلت أنسج من عينيك أغنيتي”.
وفي الغياب نلمح الفراغ والاحتراق: “لا، لا تلمْني إذا ما البوح أرهقني / فالصمت نار، كما لو خلفها حتفي”.
هكذا يتردد النص بين الامتلاء بالحب والفقدان بسبب البعد، لكن دون أن ينكسر الأمل.
بل يتجلى اليقين: “أشقى ببعدك لكني على ثقةٍ / أُطفي الزمان ولا هذا الهوى أطفي”.
القصيدة مكتوبة بروح موسيقية عالية حيث تكثر فيها الألفاظ ذات الإيقاع العذب: (أدندنُ – الأطيار – يغني – النايات – العزف – دفّ).
هذه المفردات لا تأتي اعتباطًا، بل تُرسّخ إحساس القارئ بأن النص أقرب إلى أغنية طويلة منها إلى مجرد قصيدة، وهو ما يجعل القارئ يقرأها كمن يصغي إلى لحن.
حتى في الصور نجد أن الحبيبة تولد من النايات والعزف، أي أنها كائن موسيقي في جوهره.
القصيدة مشبعة بصور تتأرجح بين الرقة والعمق ..
“أدندن الآن والأطيار في كفي” → صورة مدهشة تُجسّد الحلم بالقدرة على لمس الحرية كأنها في كف اليد.
“أراكَ في وجه طفلٍ نام مرتجفًا” صورة تمزج الحبيب بالطفولة البريئة الخائفة، فتغدو العاطفة مزيجًا من عشق وأمومة.
“تبقى لأنك في الوجدان زنبقةٌ / تُروى وتزهر في الأحزان كالنزف” صورة مركّبة من الجمال والألم، تجعل الحب زهرةً تنبت من الجرح.
الحب في القصيدة ليس علاقة بين اثنين فحسب، بل هو معنى وجود.
الشاعرة تقول: “كم، كم أحبك مذ كان المدى ولدًا”، أي أنّ حبها يعود إلى لحظة تكوين الكون، كأنه أصل الأشياء.
وهو أيضًا خلاص: “أمضي إليك وفي لقياك منطلقي”، إذ يصبح اللقاء بالحبيب الغاية النهائية للحياة.
اللغة في القصيدة مشحونة بحرارة وجدانية، تخلو من التكلف، وتعتمد على صدق التعبير أكثر من الزخرفة. البوح فيها يُشبه اعترافًا طويلًا لا يُراد له أن يتوقف.
بل إن الشاعرة تعلن بوضوح: “لا، لا تلمْني إذا ما البوح أرهقني”، جاعلة من الكتابة فعل ضرورة وجودية ليس عبث .
قصيدة “أدمنتُ همسكَ” هي نشيد حبّ شفاف، فيه من الحنين ما يعادل الألم، وفيه من الموسيقى ما يخفّف الوجع.
تتأرجح بين الحلم والخذلان، لكنها لا تنكسر؛ بل تُصرّ على أن الحب خلاصٌ، وأن العاشق قادرا أن يحيا على الأمل حتى في غياب اليقين.
إنها قصيدة تُجسّد جوهر الشعر الغنائي الصدق أولًا، والموسيقى ثانيًا، والقدرة على لمس القلب قبل العقل ثالثًا.
القصيدة تفيض بالشفافية والصدق، حيث تنسج الشاعرة حبها بخيوط موسيقية وصورية: من النجم، إلى الطيور، إلى النايات، فالزنبقة، فالطفل كلها صور تجعل الحبيب وطنًا، وتجعل الحب قدرًا لا يُطفأ.
ليلاس زرزور