Views: 7
قراءة لقصيدة ” ثورة الروح ”
للشاعر الكبير محمد سمحان
بقلم الشاعرة ليلاس زرزور
ثورة الروح
أف من الدنيا ومن أصحابها
ومن الألى هاموا وراء سرابها
غلبتهم الشهوات فانقادوا لها
واستسلموا لطعامها وشرابها
خلبت بصائرهم بزخرفها فما
انتبهوا لبغتتها وقرب خرابها
شربوا كؤوس خداعها واستمرأوا
ذل الركوع على لظى اعتابها
لعبت بهم، واستحكمت بعقولهم
برخيص زينتها ورث ثيابها
واستعبدتهم.. حينما اصغوا إلى
وقع الدراهم في رقيع جرابها
فاستنزفوا الاعمار في إعمارها
حتى منوا بغيابهم وغيابها
هي حانة الحمقى.. وكم من (باقل)
يأوى إليها غارقا من صابها
خذ يا ابن آدم ما تريد وتشتهي
من برق فتنتها ومين سحابها
المال والسلطان محنتها وكم
علقت رؤوس في رؤوس حرابها
يا من يعيش وهمه تسآلها
تبا أما تصغي لوقع جوابها
أو من يرى احلامه أن يرتوي
من قيظ مبسمها وملح لعابها
يا من تعب لكم ستبقى صاديا
فأجاجها متأصل بعبابها
طبع الغواني من قبيح طباعها
ونقيع سم الرقط في انيابها
ان اشرقت فحذار من اشراقها
أو اغربت فحذار من اغرابها
تأتي إليها عاريا مستسلما
وكما تجيء تعود صوب ترابها
تغريك بالتطواف حول طيوفها
ويشدك الترحال في إعقابها
تعطي وتأخذ منك ما اعطتكه
ويظل ما تعطي على ابوابها
وتظل تشغل بال من شغلوا بها
وكأنهم خلدوا بلبس ثوابها
وتغافل الصرعى لينسوا غدرها
وتعد عدتها لاخذ حسابها
بالموت تفجعنا ونسأل عطفها
أن تكثر النسيان في اكوابها
هي جيفة.. لا يستطاب مذاقها
أو عرق عظمتها لغير كلابها
ومباءة لا يستسيغ طعامها
إلا طوارق دودها وذبابها
متهافتين على التهام رميمها
والكل مسعور لكي يحظى بها
طول المقام بها يطيل عقابها
وتعاقب الايام بعض عقابها
هي لا ترى فينا سوى أنا لها
انساغ خضرتها وسر شبابها
انظل نمنحها البقاء وننطفى
مثل الشموع تضيء في محرابها
تبا لها تحيا على اشلائنا
وكأن كل الخلق من اسلابها
والخلد فيها كذبة يحلو لنا
تصديقها وتسومنا بعذابها
لا شيء من لا شيء يمكن أخذه
يا حكمة نخشى من استيعابها
هل نحن في الدنيا سوى مترحل
اعمى اضل مساره بشعابها
* * *
مالت علي فحرت في اسبابها
لما ابيت السير خلف ركابها
خمسين عاما لوعتني وانتهت بي
لعبة خرقاء من العابها
والموت ارحم من تجرع ذلها
فلفظتها وسئمت أن احيا بها
يا صاحبي شعري وايامي التي
ودعتها والشعر ملء اهابها
يا كم سبحنا في بحور عروضها
واشتط فينا الغوص في آدابها
انا تهت في الدنيا على الدنيا التي
الفيتها تعلوا على طلابها
ورضيت أن احيا بها مترفعا
عن نيل ما قد يشتهي من غابها
فالظلم ديدنها ولم أك ظالما
لاعيش مثل ضباعها وذئابها
بئس الحياة اذا ارتضينا ظلمها
والكل مسلوق بسوط صعابها
والظلم في حجب الذي يحتاجه
اهل الحجى والرأي من حجابها
والشعر ابقى دولة فبيوته
مشكاة نور في ظلام كتابها
لا شيء يرخصها سوى إعراضنا
عنها وهتك ستارها ونقابها
فالغر من يجري وراء قشورها
أما اللبيب فيكتفي بلبابها
والحر من يسمو على اغرائها
والشهم من يعلوا على ارهابها
سل من مضوا عنها وماتوا قبلنا
ماذا جنوا منها سوى اوصابها
خلوا القصور إلى القبور بشهقة
من قبل أن يتنبهوا لكذابها
فاستودعت ما خلفوا لخلائف
تمضي إلى حال اراه مشابها
عبر تعاتيبنا ونشغل بالنا عنها
لتفجأنا بنار عتابها
وتعيدنا للوعي مهما باعدت
أو قاربت أوهامنا بصوابها
نحن الهشيم صغارنا وكبارنا
وحياتنا رهن بعود ثقابها
سيان من عاش الحياة مجانبا
هربا ومن عاش الحياة مجابها
دعها لمن هاموا بها فهوت بهم
وارجع لروحك قبل وقت ذهابها
تنعم بهدأتها وطيب أريجها
وبنبل جوهرها ودفء رحابها
دنياك ظالمة وغادرة وفانية
وكل السوء في ألقابها
اتحبها، وتغض عن سوءاتها
لتعيش منساقا وراء رغابها
وإلى متى تبقى اسير خداعها
وإلى متى ترتاع من أغضابها
وإلى متى ستظل طوع بنانها
وتدور مصلوبا على دولابها
فاقرأ على الدنيا السلام وخلها
وأزهد بها لتكون من اقطابها
حين يتكئ الشعر على جرحٍ نازفٍ من فؤادٍ أبى الذل، ويتوضأ الحرفُ بماء الوعي، تنبثق من الروح ثورتها الكبرى… ثورةٌ لا ترفع رايةً إلا لله، ولا تنحني أمام بريقٍ أو سلطان.
في هذا النشيد المُجلجل، يخلع الشاعر عباءة الصمت، ويقف على منبر ويرثي من غرقوا في الطين، ويمدّ يده لمن بقيت في قلبه بقية من نور.
في زمنٍ غلب فيه السراب على السرور، وغدت الأرواح مقيدة بسلاسل الذهب والطين، يعلو صوتٌ بكل الصدق …
صوتُ روحٍ ثارت على الزيف، ونفضت عنها غبار الخديعة، وصرخت: “أفٍّ من الدنيا وأصحابها!”.
هي ملحمة وجعٍ يقظ، تخلع الأقنعة عن وجه الحياة، وتفضح بريقها الكذوب.
هنا تتكلم النفس بعد أن سئمت الركوع للسراب، والركض خلف ضوءٍ مزيف، تقرأ سجل العمر، وتبكي على الحلم الذي تاه في أزقة المظاهر.
هذه القصيدة صفعة وعي
هي ثورة الروح حين تستيقظ، و ترفض الانقياد
“لقد سئمت… سأرحل إلى حيث السكينة، حيث الروح تسكن ولا تُستَعبَد.”
1.أفٍ من الدنيا ومن أصحابها
ومن الألى هاموا وراء سرابها
يبدأ الشاعر بالتعبير عن ضيقه بالدنيا ومن انشغلوا بها، ثم توجه النقد إلى من انخدعوا ببريقها الزائف وسعَوا خلف أوهامها، كمن يطارد سرابًا لا يُدرك.
2.غلبتهم الشهوات فانقادوا لها
واستسلموا لطعامها وشرابها
يصور كيف أن الشهوات سيطرت على الناس، فصاروا عبيدًا لها، لا يهمهم سوى المتعة الجسدية من طعام وشراب، كأن الحياة اختُزلت في غرائز.
3.خلبت بصائرهم بزخرفها فما
انتبهوا لبغتتها وقرب خرابها
يوضح كيف أن زينة الدنيا سحرت عقول الناس، فعُميت بصيرتهم، ولم يدركوا أن هذه الزينة مؤقتة، وأن دمار الدنيا وخرابها قريب ومباغت.
4.شربوا كؤوس خداعها واستمرأوا
ذل الركوع على لظى أعتابها
يشبه الدنيا بخمرٍ مخادعة، شربها الناس وسكروا بوهمها، ورضوا بذل التذلل عند أبوابها، حتى لو كانت مشتعلة بالألم والمهانة.
5.لعبت بهم، واستحكمت بعقولهم
برخيص زينتها ورثِّ ثيابها
يُشبَّه الدنيا بفتاة ماكرة، تلاعبت بعقول الناس واستعبدتهم، لا بأمور عظيمة، بل بزينة تافهة وثياب بالية، أي بزخرف تافه لا قيمة له.
6.واستعبدتهم.. حينما أصغوا إلى
وقع الدراهم في رقيع جرابها
أصبح الناس عبيدًا للدنيا حين أرهفوا السمع لصوت المال، الذي يُخرج من كيس الدنيا المهترئ (رقيع جرابها)، أي أنّ سحرها كله قائم على المال.
7.فاستنزفوا الأعمار في إعمارها
حتى منّوا بغيابهم وغيابها
أنفق الناس أعمارهم في تعمير الدنيا، حتى جاء وقت الغياب – موتهم وموت الدنيا بالنسبة لهم – فوجدوا أنهم لم يربحوا شيئًا من السعي.
8.هي حانة الحمقى.. وكم من (باقل)
يأوى إليها غارقًا من صابها
يُشبه الدنيا بالحانة التي يجتمع فيها الحمقى، و”الباقل” رمز للغفلة والبلادة.
كثيرون ارتادوا هذه الحانة وسكروا من مرّ شرابها، دون وعي.
9.خذ يا ابن آدم ما تريد وتشتهي
من برق فتنتها ومَيْنِ سحابها
الخطاب مباشر لابن آدم: خذ ما تشتهي من بريق الدنيا الخادع، ولكن تذكّر أن هذا البريق كبرق السحاب الكاذب (المَيْن)، لا مطر فيه ولا خير.
10.المال والسلطان محنتها وكم
عُلِّقت رؤوسٌ في رؤوس حرابها
الدنيا تفتن الناس بالمال والسلطة، لكن هذين الشيئين كانا سبب محنة لكثيرين، إذ سقطت رؤوسهم مضرجة بالدماء بسببها.
11.يا من يعيش وهمه تسآلها
تبا أما تصغي لوقع جوابها
أيها الغارق في سؤال الدنيا وهمّها، أما آن لك أن تصغي إلى حقيتها وهي .. الزوال والموت والخداع.
12.أو من يرى أحلامه أن يرتوي
من قيظ مبسمها وملح لعابها
يا من يظن أن أحلامه ستتحقق عبر الدنيا، كأنما يرتوي من حرارة فمها وملوحة ريقها – استعارة قاسية للدلالة على الوهم والخيبة المؤكدة.
13.يا من تعب، لكم ستبقى صاديًا
فأُجاجها متأصل بعبابها
أيها المتعب، ستبقى عطشانًا مهما حاولت أن ترتوي منها، لأن ماءها مالحٌ مُرّ (أجاج)، وهذا الطبع مغروسٌ في أعماقها.
14.طبع الغواني من قبيح طباعها
ونقيع سم الرقط في أنيابها
الدنيا مثل امرأة لعوب (غانية)، فيها خُلقٌ فاسد، وتخفي السمّ في أنيابها كما تفعل الأفاعي المرقطة (الرُقط)، فهي خادعة قاتلة.
15.إن أشرقت فحذار من إشراقها
أو أغربت فحذار من إغرابها
سواء أقبلت الدنيا عليك (أشرقت) أو أدبرت (أغربت)، فاحذر منها في كل حال، لأن في إشراقها فتنة، وفي غيابها غدر.
16.تأتي إليها عاريًا مستسلمًا
وكما تجيء تعود صوب ترابها
نأتي إلى الدنيا بلا شيء (عراة)، مستسلمين لحكمها، ثم نعود كما جئنا، إلى التراب – إشارة إلى الموت ونهاية الإنسان.
17.تغريك بالتطواف حول طيوفها
ويشدك الترحال في إعقابها
تُغريك الدنيا بجمالها الكاذب فتطوف حول أوهامها، وتظل تُسافر خلف سرابها باحثًا عن رضاها أو عن المعنى فيها.
18.تعطي وتأخذ منك ما أعطتكه
ويظل ما تعطي على أبوابها
حتى حين تعطيك الدنيا شيئًا، فإنها تسلبه منك سريعًا، وما تعطيه لا يُدخلك إلى باطنها، بل يبقى على أبوابها، لا يدوم ولا يثمر.
19.وتظل تشغل بال من شُغلوا بها
وكأنهم خُلدوا بلبس ثوابها
الدنيا تشغل كل من تعلّق بها، فيظنون أنهم خالدون فيها، وسيبقون للأبد ، مع أن ذلك مجرد وهم.
20.وتغافل الصرعى لينسوا غدرها
وتُعد عدتها لأخذ حسابها
حتى من صرعتهم الدنيا نسوا غدرها، وهي تُحضّر لهم مفاجآتها وعقابها ،و تنتظر فشلهم.
21.بالموت تفجعنا ونسأل عطفها
أن تُكثر النسيان في أكوابها
تفجعنا الدنيا بالموت، فنرجو منها عطفًا، ونطلب منها أن تُسكِرَنا أكثر بنسياننا، لنهرب من الحقيقة – لكنها لا ترحم.
22.هي جيفة.. لا يُستطاب مذاقها
أو عِرق عظمتها لغير كلابها
الدنيا جيفة، لا طَعم لها يُستحب،
ولا يُناسب التلذّذ بها إلا لمن هم – كالكلاب التي تبحث عن العظام في الجيف.
23.ومباءةٌ لا يستسيغ طعامها
إلا طوارقُ دودها وذبابها
هي موضع قذر، لا يُقبل طعامها إلا من الحشرات الحقيرة كالدود والذباب، وهي إشارة لمن لا يطلبون من الحياة إلا السفاسف والدنايا.
24.متهافتين على التهام رميمها
والكل مسعورٌ لكي يحظى بها
يركض الناس وراء الدنيا كما لو كانوا وحوشًا مسعورة، يتهافتون على أكل بقاياها وفتاتها، دون وعي أو كرامة.
25.طول المقام بها يطيل عقابها
وتُعاقب الأيام بعضَ عقابها
كلما طالت إقامة الإنسان في حب الدنيا، طال عقابه، ويكفي أن الأيام نفسها تُعذّب الإنسان ببعض مما في الدنيا من قسوة.
26.هي لا ترى فينا سوى أنا لها
انساغ خضرتها وسر شبابها
الدنيا لا ترى الإنسان إلا كخادمٍ لها، تستمد منه حيويتها وشبابها، وكأن الإنسان وقودٌ لخضرتها، لا أكثر.
27.أنظل نمنحها البقاء وننطفئ
مثل الشموع تضيء في محرابها
هل سنبقى نحرق أعمارنا لأجلها؟
كشموع تضيء المكان ثم تنطفئ؟
نحن نخسر حياتنا بينما نمنحها تألقها الزائف.
28.تبا لها تحيا على أشلائنا
وكأن كل الخلق من أسلابها
تُعلن سخطك على الدنيا، التي لا تزدهر إلا على حساب دمارنا، وكأن كل البشر مجرد غنائم لها، تستولي عليهم وتمتص أرواحهم.
29.والخلد فيها كذبةٌ يحلو لنا
تصديقها وتسومنا بعذابها
فكرة الخلود في الدنيا كذبة لطيفة، نحب تصديقها رغم كذبها، بينما هي تعذبنا بحقيقتها كل يوم.
30.لا شيء من لا شيء يمكن أخذه
يا حكمةً نخشى من استيعابها
حكمة وجودية عميقة لا يمكن للعدم أن يعطي شيئًا، والدنيا في حقيقتها “لا شيء”، ورغم وضوح هذه الحكمة، كثيرون يخشون مواجهتها أو فهمها.
31.هل نحن في الدنيا سوى مترحل
أعمى أضلّ مساره بشعابها
تصور الإنسان كمسافر أعمى، تائه في دروب الدنيا المعقدة، لا يدري أين يسير ولا أين ينتهي.
32.مالت عليّ فحرت في أسبابها
لما أبيتُ السير خلف ركابها
حينما أعرضت عن الدنيا، وأبيت أن أسير في ركب المنخدعين بها، واجهتني بوجهها الحقيقي، وأصابتني بالحيرة والتأمل.
33.خمسين عامًا لوّعتني وانتهت بي
لعبةً خرقاء من ألعابها
يختصر الشاعر تجربته مع الدنيا خمسون عامًا من الوجع والمراوغة، وفي النهاية اكتشف أنها مجرد لعبة تافهة، غير ذات قيمة.
34.والموت أرحم من تجرع ذلّها
فلفظتها وسئمت أن أحيا بها
يُقرّ الشاعر أن الموت أهون من الذلّ الذي تُذيقه الدنيا، فقرر أن يلفظها من قلبه ويزهد فيها.
35.يا صاحبي شعري وأيامي التي
ودّعتها والشعر ملء إهابها
يخاطب صديقه، وربما يخاطب الشعر نفسه، مذكرًا بالأيام الماضية التي عاشها، وكانت مليئة بالشعر .. رغم ما في الدنيا من ألم.
36.يا كم سبحنا في بحور عروضها
واشتطّ فينا الغوص في آدابها
يتذكّر كيف غاص في بحور الشعر (العَروض) وتعمّق في آدابه، وكأن الحياة كانت ساحة شعرية يسبح فيها رغم قسوتها.
37.أنا تهتُ في الدنيا على الدنيا التي
ألفيتها تعلو على طلابها
لقد ضللتُ طريقي في الدنيا، إذ وجدتُها لا تعطي لمن يطلبها، بل تتعالى عليهم وتذلهم.
38.ورضيت أن أحيا بها مترفعًا
عن نيل ما قد يشتهي من غابها
اختار الشاعر أن يعيش فيها زاهدًا، مترفعًا عن مطامعها، رافضًا أن يأخذ منها ما يأخذه من يخوض في غابات شهواتها.
39.فالظلم ديدنها ولم أكُ ظالمًا
لأعيش مثل ضباعها وذئابها
الظلم طبعٌ ملازمٌ للدنيا، لكن الشاعر لم يكن ظالمًا، ولم يقبل أن يعيش مثل الضباع والذئاب التي تأكل الضعفاء.
40.بئس الحياة إذا ارتضينا ظلمها
والكل مسلوق بسوط صعابها
ما أقبح الحياة إذا تقبلنا ظلمها، وكل الناس يعانون فيها، كمن يُسلخ تحت سياط الآلام والمصائب.
41.والظلم في حجب الذي يحتاجه
أهل الحجى والرأي من حجابها
أعظم الظلم أن تُحجب الحقائق والمعاني التي يحتاجها العقلاء، وهذا ما تفعله الدنيا حين تحجب “اللب” خلف قشورها.
42.والشعر أبقى دولةً فبيوته
مشكاة نورٍ في ظلام كتابها
في وسط ظلمة الدنيا، يُقدّم الشاعر الشعر كمنارة، كدولة باقية، وبيوته (أبياته) مثل المصابيح في كتاب الحياة المظلم.
43.لا شيء يرخصها سوى إعراضنا
عنها وهتك ستارها ونقابها
الدنيا لا تُذل إلا إذا أعرضنا عنها وكشفنا حقيقتها، فهي تهون حين نرفض فتنتها ونفضح قناعها المزيف.
44.فالغر من يجري وراء قشورها
أما اللبيب فيكتفي بلبابها
الأحمق يركض خلف المظاهر، أما الحكيم فيأخذ جوهر الأشياء، دون أن يُفتن بزخرف الدنيا.
45.والحر من يسمو على إغوائها
والشهم من يعلو على إرهابها
الحر الحقيقي هو من لا تفتنه شهوات الدنيا، والشهم هو من لا ترهبه قسوتها، بل يتجاوزها بثبات.
46.سل من مضوا عنها وماتوا قبلنا
ماذا جنَوا منها سوى أوصابها
انظر إلى من سبقونا وماتوا، ماذا حصدوا من الدنيا؟ لا شيء سوى الأوجاع والهموم، فهي لم تمنحهم إلا التعب.
47.خلوا القصور إلى القبور بشهقةٍ
من قبل أن يتنبهوا لكذّابها
تركوا قصورهم فجأة، ودخلوا قبورهم، ولفظوا أنفاسهم الأخيرة دون أن يدركوا كذب الدنيا وخداعها.
48.فاستودعت ما خلفوا لخلائفٍ
تمضي إلى حالٍ أراه مشابها
تركوا ما جمعوه لغيرهم من الأجيال، التي ستسير على نفس الطريق، وتلقى نفس المصير، فكأن الدائرة تتكرر.
49.عبر تعاتيبنا ونشغل بالنا عنها
لتفجأنا بنار عتابها
ننشغل بلوم أنفسنا وتبرير أفعالنا، بينما الدنيا تفاجئنا بنهايتها وعقابها دون إنذار، كمن يُعاقَب فجأة.
50.وتعيدنا للوعي مهما باعدت
أو قاربت أوهامنا بصوابها
في النهاية، تُجبرنا الدنيا على العودة للوعي، سواء اقتربنا من أوهامها أو ابتعدنا، فالحقائق تفرض نفسها.
51.نحن الهشيم صغارنا وكبارنا
وحياتنا رهنٌ بعودِ ثقابها
كلنا كالهشيم (الحطب اليابس)، حياتنا يمكن أن تشتعل وتنتهي بلحظة، مجرد عود ثقابٍ واحد يكفي لإحراقها – رمز للهشاشة.
52.سيّان من عاش الحياة مُجانبًا
هربًا ومن عاش الحياة مُجابها
في النهاية، سواء هربت من الدنيا أم واجهتها، النتيجة واحدة كلنا إلى زوال، فلا فرق في المصير.
53.دعها لمن هاموا بها فهوت بهم
وارجع لروحك قبل وقت ذهابها
اترك الدنيا لمن أغرمت بهم فأذلتهم، وارجع إلى ذاتك وروحك قبل فوات الأوان – قبل أن تغادر هذه الحياة.
54.والشعرُ أبقى دولةً، فبيوتُهُ
مشكاةُ نورٍ في ظلامِ كتابِها
يمجّد الشاعر الشعرَ بوصفه دولةً خالدة، لا تزول بزوال الدنيا، بل تبقى أبياته منارةً تهدي في ظلام الحياة المليء بالخداع.
فالشعر عنده وعيٌ وهداية، يكشف زيف الدنيا ويضيء عتمتها بالحكمة والصدق.
55.تنعم بهدأتها وطيب أريجها
وبنُبل جوهرها ودفء رحابها
حين ترجع إلى روحك بعيدًا عن الدنيا، ستجد فيها السلام والطمأنينة، وعطرًا داخليًا صافياً، وستشعر بنُبلها وسعة صدرها ودفء وجودها.
56.دنياك ظالمة وغادرة وفانية
وكلّ السوء في ألقابها
الدنيا في نظر الشاعر ظالمة لا تعرف العدل، غادرة لا تُؤتمن، فانية لا تدوم، وجميع ألقابها تدل على الخديعة والشر.
57.أتحبها، وتغضّ عن سوآتها
لتعيش منساقًا وراء رغابها؟
يتساءل الشاعر بدهشة .. أتحب الدنيا رغم عيوبها الكثيرة؟ أتغضّ الطرف عن سوآتها فقط لتُشبِع شهواتك؟! وكأنك ترضى العبودية لأوهامها.
58.وإلى متى تبقى أسير خداعها
وإلى متى ترتاع من أغضابها؟
إلى متى ستبقى سجينًا لوهمها؟ خائفًا من غضبها؟ كم ستظل تهابها، وكأنها تملك عليك مصيرك؟
استفهام تقريعي عميق.
59.وإلى متى ستظل طوع بنانها
وتدور مصلوبًا على دولابها؟
إلى متى تبقى خاضعًا لأوامرها، تتحرك كما تريد هي؟ كمن صُلب على دولابها، يدور بلا إرادة، مسحوقًا تحت عجلة الزمن.
60.فاقرأ على الدنيا السلام وخلّها
وازهد بها لتكون من أقطابها
اختتم الشاعر بنداء الحكمة: قل “السلام” للدنيا – أي وداعًا بلا أسف – واتركها، فإن من يزهد فيها هو من يعلو فوقها، ويصبح سيّدًا لا عبدًا.
قصيدة “ثورة الروح” هي صرخة وجودية تنبع من أعماق روح أرهقها زيف الحياة ، ومرّغها في طين التناقضات، فثار الشاعر على كل ما هو زائل، منادياً برجوع الإنسان إلى طهر ذاته ونور جوهره.
هي تأمل بين التصوف والرؤية النقدية للمجتمع.
يتناول الشاعر في هذه القصيدة موقفًا وجوديًا من الدنيا بما تمثّله من فتنة، خداع، زيف، شهوات، سلطة، مال، ومظاهر تفتك بالإنسان وتُضلّه عن جوهره.
يرى أن البشر قد انغمسوا في توافهها حتى أضاعوا أنفسهم، واستبدلوا النور بالظلمة، والكرامة بالذل، والحق بالباطل. ثم يقدّم دعوة واضحة اتركوها، وعودوا إلى فطرة أرواحكم.
القصيدة مبنية على وحدة شعورية وفكرية متماسكة.. فكل بيت يُغذّي الفكرة المركزية، دون حشو أو تكرار ممل.
تتطور الفكرة تدريجيًا من وصف الدنيا وأهلها، إلى التهكّم عليها، ثم نقدها، فالهروب منها، ثم العودة إلى الذات كملاذ أخير.
اللغة مشبعة بروح أدبية عالية، تميل إلى السخرية السوداء أحيانًا، والزهد الصوفي أحيانًا أخرى.
اعتمد الشاعر على أسلوب التقريع، الممزوج بالأسى العميق، والخبرة الحياتية الثقيلة.
نجد الألفاظ المختارة قوية ومعبرة ..
“جيفة”، “أجاج”، “نقيع سمّ”، “عرق عظمتها لكلابها”، “حانة الحمقى”، “رقيع جرابها”…
كلها كلمات مشحونة دلاليًا، تعكس احتقارًا واعيًا للدنيا في جانبها السطحي.
القصيدة مليئة بالصور المبتكرة القوية، وهي ليست تزيينية، بل وظيفية.
فهي تخدم المعنى وتعمّقه.
– تشبيه الدنيا بـ “الغانية” التي تغري وتخون، يجعلها أنثى خادعة فاتنة مميتة.
– تشبيه الدنيا بـ “الحانة” و”الجيفة” و”مباءة الذباب” يعبّر عن قرف وجودي من عبثها.
– صورة الإنسان المصلوب على دولابها ..من أقوى الصور، حيث ترمز لعبودية الدنيا، والدوران في فلكها حتى الموت.
القصيدة جاءت على بحر يُستخدم في الغالب في المواضيع القوية، الثائرة، الخطابية، ما يناسب مضمون القصيدة تمامًا.
الإيقاع يعكس انفعالات الشاعر: يعلو ويهبط بحسب الحالة الشعورية، ويضيف عمقًا إلى الإلقاء والتأثير…
• نقد وهم الخلود:
يؤكد الشاعر أن الدنيا تُوهمنا بأنها مستقر، لكنها فانية، ولا تمنح أحدًا الخلود.
• الحرية في الزهد:
من يتخلّى عن الركض خلف الدنيا، هو الحرّ الحقيقي، هو السيّد، لا العبد.
• رفض الانقياد للمال والسلطة ..
يتجلّى موقف صلب من السلطة المستبدة، كأن الشاعر يرفع لافتة روحية ضد الاستعباد المادي.
• العودة إلى الذات:
أبرز ما تختم به القصيدة .. الدعوة إلى العودة للروح، للنقاء، للمعنى الحقيقي للحياة.
القصيدة ليست وعظًا جامدًا، بل تنبض بتجربة ذاتية.
خلف كل بيت إحساس مرير بالخديعة.
الشاعر يبدو كمن عاش طويلاً مفتونًا، ثم أفاق فاغتسل من الوهم بمرارة التجربة.
• تنضح القصيدة بروح الزهد والانصراف عن الدنيا، لكنها ليست عزوفًا سلبيًا، بل رفضًا واعيًا.
• تقترب من الفكر الصوفي في عمقها، حيث تكون الدنيا حجابًا عن النور، والروح هي الأصل.
تقف في صف شعراء كبار زهدوا في الدنيا ..
مثل الشافعي، ابن الرومي، أبي العلاء المعري .
لكنها لا تكررهم، بل تعبّر عن صوت معاصر، أكثر حدّة وألمًا، متأثرًا بتجربة شخصية وحضارة مادية مستفحلة.
قصيدة “ثورة الروح” هي موقف فكري وشعري ثائر، فيها يغدو الشاعر الكبير محمد سمحان شاهدًا على خيبة الإنسان في مادياته، ناطقًا بلسان من استيقظ بعد طول غفلة، ليصرخ في وجه الدنيا
“اقرأ على الدنيا السلام وخلّها
وازهد بها لتكون من أقطابها”
ثورة روحية واعية، وتجسيدٌ عميق لانتصار النور على الزيف.
ليلاس زرزور