Views: 41
ومن سلسلة القصص القصيرة
عَبرَةُ شِفَاء 😪
في ميدانِ محطةِ الرملِ بالإسكندرية، كان هناك شابٌّ يذرعُ الطريقَ جيئةً وذهابًا، بين المطاعمِ والمقالي ومحالّ الملابسِ والأحذية. ولم يكن يعنيهِ أمرُ الفرجةِ لانشغالِ بالِه، حتى إذا أنهكهُ الترجُّلُ على قدميه، جلس على مقعدٍ أمامَ إحدى القهاوي ليستريحَ قليلًا، ويشربَ كوبًا من الشاي لعلّه يُهَدِّئُ من توتره.
وما إن رفعَ بصرَه إلى بنايةٍ قديمةِ الطرازِ تواجهه، حتى لاحت له يافطةٌ كُتِب عليها: «الدكتور رشدي الديب – أمراض نفسية»
كأنما وجدَ ضالّتَه المنشودة ؛ إذ راودته فكرةُ التوجّهِ إليه، ولمَ لا؟
أليس يشعرُ أن نفسَهُ مريضة؟ أليست فكرةُ اليأسِ من الحياةِ قد تسلّلت إلى قلبه مرارًا؟ وهل لم يُخلَق الطبُّ ليُعين مثلَه من مرهقي النفوس؟
لكن تردّدتْ في صدره خواطرُ الخوف وهواجس الريبة :
ماذا لو عَلِمَ أحدٌ من أهلي أو أصدقائي بزيارتي؟ ألن يَنعَتونني بالمجنون؟ ألن تصيرَ وصمةَ عارٍ في حياتي؟
غير أنه انتفضَ فجأةً، وعزمَ على مواجهةِ نفسهِ بجرأة، مهما كانت النتائج. فدخلَ العمارة، وارتقى السُّلَّم بخُطًى وئيدة، حتى بلغ صالةَ الاستقبال.
وهناك رأى وجوهًا شتّى:
أحدُهم شاردُ البصر كأنّهُ يرنو إلى أفقٍ بعيدٍ مجهول، وآخرُ يهزُّ رأسَهُ يمينًا ويسارًا بهزّاتٍ لا إراديّة، وثالثةٌ تهمسُ بكلماتٍ غامضة، ثم تنفجرُ ضاحكةً ضحكةً عالية، يتبعها نحيبٌ وصراخ.
فاستشعر سليم – وكان اسمه – أنّهُ دخل عالَمًا آخر، ومع ذلك وجدَ فيهم راحةً غريبةً، أكبرَ ممّا كان يشعرُ بين أولئك الذين يُخفون أمراضَهم وراءَ ستارِ العقلِ والرزانة.
جلس ينتظرُ دوره، فسمع اثنين يتهامسان بذكرِ الطبيب، يرفعان من قدرِه وتمكنه الطبي ، ويُثنيان على حالاتٍ كثيرةٍ تمَّ شفاؤها على يديه. فهدأتْ نفسهُ قليلًا، ورأى بارقةَ أملٍ تلوح له من بعيد.
دخل على حجرة الطبيب، فقابلهُ هذا الأخيرُ بالبِشرِ والترحاب باسما وأشار إليه بالجلوس. فتنفّس سليمُ بعمقٍ وقال:
– «اسمي سليم، أعاني من اضطرابٍ نفسي، وكآبةٍ تكاد أن تُفتكُ بي منذ رحيلِ والدي المفاجئ. يا دكتور، على الرغمِ من بلوغي السابعة والعشرين، إلّا أنّني أعيشُ يتمًا مُرًّا. لقد كان أبي صديقًا وناصحًا وأبًا حنونًا، فلما رحل، رحلَ الحنانُ كلّه. الناسُ يستنكرون عمقَ حزني، وكلماتُ عزائهم تزيدُ جُرحي اشتعالًا. ليتَهُ ترك لي ذكرى واحدةً مؤلمة، فأجدُ فيها عزاءً من بعده، لكنّه بالغَ في حبّي ودلالي حتى أثقَلَ قلبي بالفقدِ والمرارة لدرجة تمنيت لو منحت ابا قاسيا ماكنت ذقت ويلات الفراق بهذه الدرجة المفجعة من الألم …»
أطرقَ الطبيبُ برهةً، وصمت صمتًا ثقيلاً، ثم تغيّرت ملامحُه فجأة. حاول أن يُخفي ما يدور في خلده ، فأدارَ ظهرهُ، لكنّ دموعَه سالت غزيرةً لم يستطع حبسها. تعجّب سليم وسأله مضطربًا:
– «خيرٌ يا دكتور؟ ما الذي أصابك بغتة؟»
فإذا بالطبيبِ يجهشُ بالبكاءِ والنحيب، حتى اضطرَّ سليم أن يربّت على كتفه مُهدِّئًا إياه وكأن لسان حاله يردد المثل الشعبي
جبتك يا عبد المعين تعينني فوجدتك محتاجا للعون !!
وفي مشهدٍ عجيبٍ لم يتكرّر ، تبادلت الأدوار:
إذ استلقى الطبيبُ على سرير الكشف، وجلسَ المريضُ على كرسيّ الطبيب!
عندها بدأ الطبيبُ يحكي بصوتٍ مخنوق:
– «أتدري كم مرّةٍ جلستُ على سريرٍ كهذا؟
لقد ابتلاني القدرُ بأبٍ قاسٍ غليظِ القلب، لم يربت على كتفي يومًا، ولم يبتسم في وجهي مطلقا . أيقظني كلَّ صباحٍ بصفعةٍ على وجهي،بسبب أو بدون وكان ينعتني بالفاشل وحرمني العطفَ والرحمة، حتى كبرتُ وفي صدري بركانُ حقدٍ دفين. كنتُ أختبئ وراء الشجرة لأرى زملائي يُعانقون آباءهم ويغمرونهم بالقبلات، فأمسك خدّي الملتهب من آثار صفعه، وتغلي مراجلِ قلبي حقدًا عليه وعلى الدنيا.
وحين صار شيخًا ضعيفًا مقعدًا، لم يهتزّ لي جفن، بل وسوس الشيطان لي أن أدفعه ذات يوم من فوق السُّلَّم… لكنني استغفرتُ الله ومنعت يدي في اللحظة الأخيرة . لقد ورثَ قسوته عن أبيه، وأنا كنتُ الضحية لكليهما.
كافحتُ لأدخل كليةَ الطب، علّي أعالج نفسي قبل أن أُعالج الناس. ساعدتُ مرضاي على الشفاء، لكن جرحي أنا لم يندمل. رفضتُ الزواج خوفًا أن ترث ذريّتي دمي الموروث الملوث بالقسوة .
وها أنتَ يا سليم، بحديثك عن حنان أبيك، فجَّرتَ بركاني، وأيقظتَ جرحًا دفينا وكأنك نزعت الضمادة من عليه »
ثم نظر إليه بعينين دامعتين وسأله بحزم :
– «لو خُيّرتَ يا سليم،وعاد بك الزمان مرة أخرى أكنتَ تختار كأسَك المليءَ بحلو الذكرياتِ أم كأسي المترع بمرير اللحظات ؟»
أطرق سليم برهةً، ثم قال بصوتٍ مرتجف وكأنه يباعد عنه يد القدر :
– «لا… لا أستطيع أن أتخيّل غير ما وهبني الله. لستُ أقبلُ بغيره بديلًا.»
فابتسم الطبيبُ مغالبا دموعه وقال:
– «إذن، اخرج من هنا وأنتَ مُعافى. عُد إلى أولادك، واملأ حياتَهم حُبًّا ورحمةً، واصنع معهم ذكرياتٍ حلوةً كما صنع والدُك معك، ليذكروك بها يومًا. فما تزرعْه اليوم سوف تحصُدْه غدًا.»
خرج سليم، وروحهُ تماثلت للشفاء ، وقلبُه يتهلل حمدا وشكرا
فتمتمَ وهو يقول:
– «ترياقي ما كان إلّا من خلال هذه العبرة الشافية… يا طبيب، أسألُ الله لك الشفاء، كما جعل من ألمك شفاءً للآخرين.»
تمّت
بقلم / شروق لطيف* اديبة مصرية
@