Views: 11
دراسة نقدية
في ديوان «طوفان غزة»
مسرح لمعاناة إنسانية وتوثيق معاناة
للشاعرة ثناء شلش
بقلم: الناقد حسن غريب
روائي ناقد شاعر
مقدمة تمهيدية:
في ديوان «طوفان غزة» تتجلّى شاعريةٍ متكللةٌ بالنبض الجماعي والقضية، حيث تتداخل العاطفة مع السخط، والوجد مع الغضب، لتنتج خطاباً شعرياً يحاول أن يؤكد على حضور فلسطين كقيمة روحية وسياسية وإنسانية.
ما يميّز نصوص ثناء شلش في هذا التجميع هو اندفاعها الشعري نحو التعبير الجمعي (الأمة، الأرض، القدس، الأطفال، الشهداء)، واستخدامها صورة الطوفان كإطار استعاري يوحّد الحقول الدلالية للنص: الطوفان كقوة تطهيرية، كعقاب أخلاقي وسياسي على الغاشم، وكنهرٍ من دم وعاطفة لا يطفئه سكون الأُمم.
منهج الدراسة وأهدافها:
أقصد بهذه الدراسة قراءة نقدية تحليلية متكاملة تراعي:
(1) السياق الدلالي والسياسي للنصوص،
(2) البنية الأسلوبية واللغوية،
(3) المقامات الفنية (صورة، رمز، استعارة، خطاب)،
(4) الاختيارات الإيقاعية والصوتية، و(5) الأثر الخطابي والدلالي في تشكيل وعي قارئِ القصيدة السياسية. أسعى لأن تكون القراءة واحدة متماسكة لا تقسم النصوص إلى قطع متنافرة، بل أتعامل مع الديوان ككلٍّ متكاملٍ يحافظ على وحدة مقصدية.
الهمّ المركزي:
المقاومة والذاكرة والجسد الجمعي
تتكرر في الديوان مفرداتٌ ومشاهد تؤسس لهَمّ مركزي واحد: فلسطين كقِيَمَةِ وجود، وغزّة كرمزٍ لصمودٍ بطولي ومكانٍ لمعاناةٍ إنسانية. تتقاطع ثلاثة محاور دلالية:
1. المقاومة والبطولة:
تتجسد في صور الأطفال المحاربين، الحجر كسلاح، والطلائع التي «تؤمّننا». القصائد ترفع منسوب البطولة وتعيد كتابة الخسارة كقيمة ثأرية وكرامة مستعادَة.
2. الشهيد والدم: الموت عند الشاعرة
ليس نهايةً بقدر ما هو معنى مُعيد للحضور؛ الشهادة تشكل مأوىً وخصباً للذاكرة: «سالت دماء الطهر»؛ الدم هنا لغة تضحية ثمّة تجانس بين القتل والخصب.
3. النداء للأمّة واللّوم:
ثناء لا تكتفي بتوثيق المعاناة، بل توجه أصابع الاتهام للوعي العربي «الأمّة الخرساء»، وتردّ على سكوت القيادات وتخاذلها. اللغة هنا تأخذ سِمة الوعظ والنصح والعتاب.
الصور الاستعارية والمحورية: الطوفان، الحجر، القدس، الخيمة
الديوان يعتمد على مجموعة رموز متكررة تكثّف الدلالة وتحمل حملات عاطفية متواصلة:
الطوفان:
استعارة مركزية تحمل تعددية دلالية—غضب إلهي، قوة شعبية جارفة، عدالة تاريخية محرِقة. الطوفان عند الشاعرة ليس محض طوفان مدمر فقط، بل طوفان يُعيد ترتيب العالم ويعرّي الدمقراطية الزائفة للأعداء.
الحجر:
حجر الطفل، حجر الملحمة، حجر كعتبة مقاومة؛ يتحول الحجر في الخطاب إلى سلاح وموئل وضمير. الحجر ينجز تبديلًا رمزيًا: من جمادٍ بلا قيمة إلى فعلٍ سياسي.
القدس:
ليست مجرد موقع جغرافي بل مركز طقوسي-وجداني؛ «القدس تصرخ» و«مصراعي المعراج»؛ المدينة كعروس مقدسة يعلن النص واجب الدفاع عنها كدِينٍ ووجود.
الخيمة:
رمز النزوح واللامكان، لكنها أيضاً ممكنة الرقة والحنان—الخيمة تبكي وتمتلك قلبًا، وهي مسرحٌ لتجليّات الحزن والصبر.
الخطاب الشعري:
تصيّف بين النشاز والنشيد
ثنائية الخطاب في الديوان واضحة: بين الانفعال الشعري الكثيف الذي يميل إلى الخطاب الحماسي (النداء، التكبير، التهديد) وبين المفردة التأملية الحزينة. الشاعرة تستخدم خطاب النشيد (توظيف البلاغة القومية والدينية) مع لمساتٍ من الخطاب الشعائري (الاستغاثة، الدعاء، الاستنكار). هذا المزج يمنح الديوان طابعًا الاحتفالية والمرثوية معا.
اللغة والأسلوب:
بلاغةُ الصيحة والصرخة
اللغة في الديوان عربية فصيحة مقاربة للّغة الخطابية الدينية والوطنية؛ تحفل بالاستعارات الدينية («معراج رسولي»، «صلاتي») والبلاغات القومية («راية»، «العروبة»). أسلوبها يعتمد على التكرار البلاغي (تكرار العبارات والدعوات) لتأكيد الحِمل الدلالي وإرهاص الإيقاع، كما تعتمد الجملة الاسمية على نحوٍ مكثفٍ لخلق وقارٍ وخطابية. هناك انتقال بين النظم البيتيني التقليدي والحر (القصائد المتقطعة) يعطي تنوعًا إيقاعيًا.
الإيقاع والصوت: من التفعيلة إلى الصيحة الحرة
لا تلتزم الشاعرة بمقياس وزني موحّد في كامل الديوان؛ نجد قصائدٍ تميل إلى الوزن العمودي مع قوافي شبه منتظمة، وأخرى حرة الإيقاع. هذا الاختلاف يخدم الحالة النفسية: الإيقاع المنتظم يتناسب مع طقوس النشيد الوطني، والقصيدة الحرة تجسّد الصراخ والنداء. من حيث الصوتية، تستخدم الشاعرة جناساً وتضادًّا وصورًا سمعية قوية (تضمغ الكلمات المؤثرة مثل «صمت.. صراخ»، «دم.. دمع») لتوليد رنينٍ عاطفي.
التقنيات البلاغية والبنائية اللافتة
النداء والاستفهام البلاغي:
كثيرٌ من النصوص تبدأ بنداء («رباه»، «يا قدس») أو تساؤلٍ بلاغي ينتقد أو يستنهض. هذا الأسلوب يوجّه النصّ من التوثيق إلى التفاعل المباشر.
التكرار المتصاعد:
إعادة بعض العبارات (مثلاً «تشكو دموع العين») تعمل كحاملٍ إيقاعي ومؤكدٍ للمأساة.
التناص الديني والتاريخي:
إيماءات إلى صلاح الدين، معتصم، وغيرها من رموز التاريخ الإسلامي والعربي، تعيد كتابة التاريخ كصيرورة مقاومة.
التحول الاستعاري:
صورٌ تتحول (الحجر كسلاح، الدم كنبع خصب)، مما يضفي عمقًا رمزيًا. التحويلات تجري ثنائيات: موت/خلود، هزيمة/انتصار، خنوع/كفاح.
البنية الدلالية الموحدة: من الفرد إلى الجماعة:
الديوان يُظهر تحوّلًا واضحًا من الشعور الفردي نحو التجسيد الجماعي: الطفل، المرأة، الزوجة، الشهداء يصبحون وجوهاً في لوحةٍ جماعيةٍ.
هذا التوسيع من «أنا» شعرية إلى «نحن» إنساني/قومي يوازي رغبة الشاعرة في تحويل الحزن إلى فعلٍ تاريخي.
التوترات الأخلاقية والسياسية: بين الإنكار والوعظ
أحد أهم عناصر الديوان هو النبرة الوعظية التي لا تتوقف عن اتهام الصامتين: الحكام، الأمة، وبعض رجال الدين والسياسة. هذا يُظهر صوتًا نقديًا داخليًا لا يرضى بالجمود. وفي الوقت نفسه، هناك دعوة مباشرة للتوحّد والعودة إلى قيمٍ دينيةٍ وأخلاقية توصف بأنها علاج الهوى الذي أفقد الأمّة عزّها.
التصوير العاطفي للطفولة والأنوثة:
الطفولة عند ثناء شلش ليست خصوصية حميمة فحسب، بل ساحة مقاومة؛ «طفل الحجارة لم يعد طفلاً» يحوّل صورة الطفولة من ضعفٍ إلى قوةٍ. الأنثى أيضاً تُستدعى كرمز للألم والقوة (زوجة الشهيد، الشهيدة)، وهذا التصوير يوسع دلالة البطولة لتشمل عناصر الحنو والمعاناة الأنثوية.
قراءة نقدية في ضوء التراث المقاوم:
ليس من الصعب أن نرى في الديوان امتدادًا لتيار الشعر المقاوم العربي الحديث؛ ثناء شلش تستثمر عناصر التراث الشعري الوطني والرموز التاريخية وتعيدها إلى خطابٍ معاصر. لكنها في الوقت ذاته تضيف بصمة ذاتية من خلال لغة مباشرة أقرب إلى الوعظ الشعبي أحيانًا، والشحن العاطفي المباشر الذي يسهل على جمهور واسع التلقّي.
نقائض وأسئلة نقدية حول الخطاب الشعري في الديوان:
1. الإلحاح الخطابي مقابل الدقة الفنية: كثرة النداءات والتكرارات تعطي قوة عاطفية لكنها أحيانًا تضعف بناء الصورة الشعرية الدقيقة. هل يُحسب هذا على الشعر أم على فعاليته الخطابية؟ جوابٌ نقدي: إذا قُيم العمل بوحدة أثره الاجتماعي والسياسي، فإن هذا الأسلوب له ما يبرره؛ لكن من منظور جمالي صرف، فالتكرار والاستعارات المتعجلة قد تقلل من قدرة النص على الاكتفاء الذاتي كعمل شعري متماسك.
2. المثالية الأخلاقية واللغة القطبية: التقسيم الحاد بين الخير/الشر، الصمود/الخيانة يمكن أن يبسط تعقيدات الواقع السياسي ويغفل عن مستويات التعقيد السياسي والاجتماعي داخل «الأمّة». النقد هنا هو ضرورة مزيد من درجات الرمادية إنْ رغب الشاعر في تقديم سردٍ إنساني عميق متعدد الطبقات.
3. الإيديولوجيا مقابل الحرية الإبداعية: الديوان واضح الانحياز السياسي، وهو مشروعٌ مشروع في الشعر المقاوم، لكن المطلوب نقديًا هو النظر إلى كيفية تحقيق التوازن بين رسالة شعرية قابلة للنقد الفني والبلاغي وبين الرغبة في التعبئة.
الأثر المحتمل واستقبال الجمهور:
نصوص كهذه لها قدرة عالية على الحشد الشعوري لدى جمهور واسع: تُشبّع حاجات الهوية، تعزز انتماءً، وتخلق شعوراً بالعزاء والمشاركة. كذلك يمكن أن تستخدم هذه القصائد في سياقات احتجاجية ووطنية، مما يزيد من طاقتها الفاعلية خارج الإطار النصي. من جهة نقدية، يهتم الباحث بتقييم ما إذا كانت القصائد تنجح في إحداث تغيير معرفي أو سلوكي في الجمهور أم تظل تثبيتًا لوجدان موجود.
التوصيف الأسلوبي العام لمكانة الشاعرة في الديوان:
نتاج الديوان يقدم ثناء شلش كشاعرة ذاكرة وواثقة من صوتها السياسي، تستخدم أدوات التقليد والحداثة بأشكالٍ تخدم القضية. صوتها حماسي، أداتي، ومباشر؛ أقل ميلاً للتجريب الشكلاني المضمر وأكثر انشغالًا بالخطاب الإقناعي والعاطفي.
خاتمة واستنتاجات ترابطية:
«طوفان غزة» ديوان يتشبع بالانتماء والتضحية والنقد الذاتي للأمة، ويعتمد بنية خطابية تربط بين المقدس والتاريخي والسياسي. ينجح الديوان في تقديم نصوصٍ مؤثرةٍ عاطفيًا وتجليات واضحة للحن الشعري المقاوم، لكنه يواجه أيضاً تحديات جمالية تتصل بعتبات التركيب البلاغي والتكرار. من منظور نقدي أكاديمي، أقترح اعتباره وثيقة شعرية مهمة في رصيد الشعر المقاوم المعاصر، مع دعوة لمزيد من التأمل في إمكانيات مزج التجريب الشعري مع فعالية الخطاب السياسي—كي يظل الشعر مقاومًا ووظيفيًا وجماليًا في آنٍ واحد.
توصيات دراسية وبحثية لاحقة:
1. دراسة مقارنة بين «طوفان غزة» وأعمال شعرية مقاومة معاصرة (ملاحظة: يمكن بحث أمثلةٍ محددة لاحقاً).
2. قراءة بلاغية تفصيلية لقصائد مختارة (تحليل بيت-بيت، دراسة أدوات الاستعارة والصورة).
3. بحث في أثر الديوان على تجاوب الجمهور عبر وسائل التواصل (دراسة استقبالية).
4. تحليل مقارن بين طبقات الخطاب: الديني، القومي، الإنساني داخل الديوان.
خاتمة شخصية ونبرة نقدية أخيرة:
أرى في ثناء شلش شاعرةً تكتب من قعر الجرح وبقلبٍ نبضه وطن. ديوان «طوفان غزة» ليس مجرد كلماتٍ على صفحات؛ إنه محاولة شعريّة لترديد صرخةٍ جماعية، لتثبيت ذاكرةٍ، ولتذكير الأحرار بواجبٍ إنساني وأخلاقي. نقدي له محبة واحترام للقصد والنية، ورغبة في أن يصقلَ صوتُها بالوسائل الفنية التي تجعل النص يبقى في الذاكرة الأدبية لا فقط في ذاكرة اللحظة.






































