Views: 1
قراءة أدبية في ديوان “حيّ ابن سكران”
للشاعر العراقي القدير شلال عنوز
بين دفّتي هذا الديوان ينبعث عبق العراق، ويطلّ وجه بغداد بكلّ ما تحمله من وجعٍ ودهشةٍ ومجدٍ قديم.
(حيّ ابن سكران ) هو بوّابةٌ تُفضي إلى عالمٍ لغويّ متخم بالتناقضات: الحنين والتمرّد، الطفولة والكهولة، العشق والموت، الضحكة المبتورة والدمعة
(حي ابن سكران) ذاكرة مدينةٍ تمشي على حافة الرماد.
يتّخذ الشاعر من الحيّ الشعبي مسرحًا رمزيًا لتجليات الذات العراقية المعذّبة، حيث يصبح (ابن سكران ) رمزًا لجيلٍ شرب من كأس المرارة حتى الثمالة.
فالحياة في الحي ليست إلا صورة مصغّرة للعراق بأسره: وجوه أتعبها الجوع، أصوات تشيخ قبل أوانها، وقلوب ما تزال تبحث عن معنى للفرح وسط الركام.
تتوزع موضوعات الديوان بين الوجدان الفردي والوجع الجمعي.
ففي كل نصّ نسمع حوارًا بين الذات والمدينة، بين الشاعر وذاكرته.
العراق هنا كائن حيّ يئنّ ويتكلم.
حيث يقول في أحد المقاطع:
“ننام على أوجاعنا كمن يحتضن جمرة،
نحلم بليلٍ لا تفوح منه رائحة الدم.”
إنها لغة تشي بأن الشاعر يكتب بعينٍ دامعة وقلبٍ يقظ، يُعيد صياغة الألم حتى يصير جماليًا، ويحوّل الخراب إلى قصيدة.
لغة الديوان شاعرية حدّ الوجع، تنبض بإيقاعٍ داخليّ يراوح بين النثر المتوهّج و التفعيلة
لا يتقيد الشاعر بوزنٍ واحد أو شكلٍ واحد، فهو يميل إلى الانفتاح، كأنّ القصيدة عنده كائنٌ حيّ يتنفس ويتحوّل.
اللغة في هذا العمل تكتسب طابعًا سرديًا تأمليًا؛ فكل بيت أو مقطع تُضاء فيها الروح بوميضٍ عابر من الذاكرة.
التراكيب تنبض بعبارات الحنين حينًا، والحب الممزوج بالألم حينًا آخر، وكأن الشاعر يصرّ على أن يجمع أطياف اللسان العراقي في نسيجٍ واحد.
أما الصورة الشعرية فهي كثيفة ومشحونة بالرموز.
تتداخل فيها الطبيعة بالمدينة، والماء بالدم، والطفولة بالخراب. في إحدى القصائد، يرسم الشاعر بغداد كأنها أنثى من رماد، تنهض في الصباح لتغسل وجهها بماء دجلة وتكحّل عينيها بغبار التفجيرات.
تلك المفارقة بين الجمال والمأساة تُشكّل جوهر الرؤية الجمالية للديوان.
الحنين هو السطر الخفي الذي يربط قصائد الديوان جميعًا.
الشاعر لا يكتب عن الماضي ليتباهى به، بل ليحتمي به.
هناك حنين للأم، للحيّ القديم، لأصوات الباعة، لرائحة الخبز، ولأيامٍ كان فيها للضحك طعم.
لكن هذا الحنين هو مرارة الذاكرة حين تستفيق.
يقول في موضعٍ آخر:
“رأيت طفولتي تمشي حافيةً في شوارع الطين،
تلاحق ظلَّها فلا تمسكه،
كأنّها بغداد وهي تفتّش عن قلبها المفقود.”
هنا يتحوّل الحنين إلى فعل مقاومة، مقاومة النسيان، ومقاومة العدم.
كل ذكرى تُستعاد في هذا الديوان هي محاولة لإنقاذ ما تبقّى من إنسانية الشاعر.
يعتمد الديوان على موسيقى خفيّة تتولّد من داخل النص، لا من الوزن الخارجي فحسب. فالإيقاع ينبع من تكرار المفردات، ومن تقابلات التضادّ بين الكلمات (نور/ظلمة، حياة/موت، عشق/فقد).
الشاعر يدرك أن الجرح لا يُقال مرة واحدة، لذلك يعيد صوغه بأشكال متعددة، حتى يصير الإيقاع صدىً للألم، لا زينة لغوية.
وفي أكثر من موضع، يلوح إيقاع النداء، كأنّ الشاعر يخاطب جمهورًا غائبًا أو وطنًا لا يسمع:
“يا وطني، يا من تسكنك جراحنا،
أما آنَ أن تشفى؟”
ذلك النداء المتكرر يمنح النصوص بُعدًا إنسانيًا شاسعًا، ويحوّل القصيدة إلى صلاة جماعية تنطلق من ذاتٍ واحدة لتشمل الجميع.
رمزية العنوان (حيّ ابن سكران ) هي المفتاح الأساسي لفهم الديوان.
فـ (السكران ) ليس سكيرًا بالمعنى الحسي، بل هو رمز للوعي المشحون بالعذاب.
إنه منغمس في مرارة الواقع إلى حدّ الثمالة. والسُكر هنا سُكر روحيّ، ناتج عن فائض الوجع والحب والخذلان.
الحيّ بدوره هو مجاز للهوية العراقية بكل تناقضاتها: العفوية والحزن، الطيبة والقسوة، الجمال المهدور والدم المسفوك.
كل بيت في هذا الحيّ يروي قصة، وكل شارعٍ يحمل نغمة من أغنيةٍ حزينة.
حتى الشخصيات العابرة في الديوان — الأم، العاشقة، الطفل، الجندي، العابر — تتحول إلى رموز: الأم هي الوطن، الطفل هو المستقبل المؤجل، العاشقة هي الحلم، والجندي هو الشهيد الحاضر في الذاكرة كل صباح.
على الرغم من أن الديوان مشبع بخصوصيته المحلية، إلا أن روحه إنسانية عالمية.
فالشاعر لا يتحدث عن حيٍّ عراقيّ فحسب، بل عن الإنسان في كل مكانٍ يعاني من الاغتراب، والبحث عن معنى الحياة وسط الفوضى.
في كثير من المقاطع، يطرح الشاعر أسئلة وجودية كبرى:
من نحن؟
ولماذا نحيا إذا كان الموت أكثر عدلاً؟
وهل يمكن للحب أن يكون خلاصًا؟
تلك الأسئلة تُخرج الديوان من الإطار الواقعي إلى الأفق الفلسفي، حيث الشعر يصبح تأملًا في معنى الوجود، لا مجرد تصوير لحدث أو مشهد.
وما يميّز الشاعر في هذا العمل هو صدق الانفعال.
فالعاطفة لا تُصطنع بل تُعاش.
يشعر القارئ أن الشاعر يكتب بدمه ، وأن كل سطرٍ مرّ عبر تجربةٍ حقيقية من الفقد أو الحنين أو الانكسار.
تتجلّى العاطفة في لغة الحوار الداخلي التي تفيض بالبوح، وفي الصور التي تتكسّر كما تتكسّر المرايا في وجه العاصفة.
القصيدة عنده ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية؛ هي وسيلته الوحيدة للبقاء في عالمٍ يتآكل فيه الإنسان.
لذلك تأتي كلماته مشتعلة، تتأرجح بين البكاء والصراخ، بين الصمت والاعتراف.
أسلوب الشاعر يمزج بين البساطة والعمق. فهو يكتب بلغةٍ يمكن للقارئ العام أن يتذوّقها، لكنّها في الوقت نفسه تخفي وراءها الكثير من المعاني.
تكثر في الديوان التشابيه الحسية والمجازات البصرية، التي تجعل الصورة ملموسة:
“الليل يشبه سجّانًا يجرّ وراءه مفاتيح المدن المطفأة.”
هذه اللغة التصويرية تمنح النص طاقة خيالية وتحيل القارئ إلى مشاهد حيّة تتكوّن أمام عينيه.
كما أن استعماله للموروث الشعبي — الأمثال، المفردات ، الإيقاع اليومي — يضفي صدقًا ودفئًا خاصًا على القصائد، فيغدو النص قريبًا من الروح ومفعمًا بالبساطة البليغة.
يتقاطع في الديوان خطّان متوازيان: العشق والوطن.
فالحب عند الشاعر .. موقف من الحياة.
يحب المرأة كما يحب الأرض، ويكتب للحبيبة كما يكتب لبغداد.
كلاهما أنثى جريحة تستحق الحماية.
حين يقول:
“أحببتها كما يُحب الرافدانُ ضفافَهُما ،
رغم كلّ ما فيهما من طينٍ وعطش.”
يختصر بذلك معنى الديوان كلّه: أن الحبّ هو النجاة الوحيدة الممكنة في عالمٍ يضجّ بالموت.
من الناحية الفنية، يتوزع الديوان على مجموعة من القصائد تتنوّع في الطول والبنية، لكنها جميعًا تنتمي إلى نسيج واحد من الوجع الجمالي.
لا توجد وحدة موضوعية صارمة، لكن ثمة خيط خفيّ يشدّها جميعًا هو صوت الشاعر ذاته، الذي يكتب من قلب المدينة ليقول: “ما زلنا أحياء رغم كل شيء”.
تسير القصائد وفق منحنى تصاعدي من الحنين إلى التأمل، من الخاص إلى العام، من الذات إلى الجماعة، حتى يختم الديوان بنبرةٍ أقرب إلى التصالح مع الألم، وكأنّ الشاعر أدرك أن الجرح جزء من الهوية، لا نقيض لها.
(حيّ ابن سكران ) هو سيرة شعرية لمكانٍ وإنسان.
إنه نصّ ينتمي إلى الواقعية الشعرية الحديثة، لكنه لا يتخلى عن روح الغنائية القديمة.
حيث يجمع بين حرارة التجربة ووعي الشاعر بالأسلوب، بين العفوية والتقنية، بين صدق البوح ودقّة التشكيل.
القيمة الفكرية للعمل تكمن في تحويل المعاناة إلى جمال، وفي استحضار الذاكرة الجماعية بطريقة فنية راقية.
أما قيمته الجمالية فتكمن في لغته التي تجمع بين التراث والحداثة.
إن ديوان (حيّ ابن سكران ) وثيقة وجدانية لشاعرٍ يرى في الشعر وسيلة للنجاة من الغرق.
هو صوتٌ يخرج من أزقة العراق ليصل إلى كل قلبٍ عربيّ يعرف معنى أن تحيا على حافة الجرح.
في كل بيتٍ من هذا الديوان نبضُ وطنٍ وصرخة إنسانٍ يرفض الاستسلام، وفي كل قصيدةٍ يقف الشاعر على تخوم الضوء، ينادي العالم أن يسمع وجع بلاده كما يسمع نشيدها.
إنه عملٌ يستحقّ الوقوف عنده طويلًا، لما فيه من صدق التجربة، وثراء الصورة، وعمق الفكرة.
فـ(حيّ ابن سكران) هو حالة روحية تفيض بالعراق كلّه: بألمه، بعنفوانه، بذاكرته، وبشعره الذي لا يموت.
ليلاس زرزور



































