Views: 6
“ورقه الأصفر” قصة قصيرة
*بقلم لبابة يونس
& نفضتْ الغبار عن ورقةٍ صفراء طواها الزمن، ووشّت أطرافها صفرةٌ تميل إلى الصدأ.فتَحَتها بفضول لترى ما بداخلها، وكانت قد طُويت بأناقة ووُضعت بين صفحات كتاب “قصص قصيرة” لتشيخوف، كاتبها المفضل.
فتحت الورقة ببطء، وكانت مكتوبة بخط يدها، رسالة إلى (أنا).
“أعرف أنك تترددين كثيرًا، ولا تحسمين الأمور، سأعطيك آخر فرصة.
إنه تحدٍ بيني وبينك يا (أنا):
● أولاً: إما أن تنهي علاقة الحب مع (س)، أو تلتزمي بعلاقة عقلانية مع (غ).
● في العمل، حسم الموضوع: إما الاستمرار مع شركة القطاع العام، أو توقيع العقد مع شركة “الروافد” الخاصة.
● حسم موضوع المنزل: إما العيش مع أمّك، أو أخذ حصتك والعيش مع أمّك عند أخيك.
● موضوع السفر لن أتحداكي فيه، لأنه حظ… نتركه للأقدار.
ها أنا أرسل لك هذه الرسالة للمرة الأخيرة، إمّا أن تحسمي أمورك وتقرري، أو سأتركك وشأنك، ولن أمد لك يد العون بعد الآن.
هذا آخر تحدٍ، اعتبريه تهديدًا، وأنا بانتظار النتائج. لتردي لي الجواب.”
التوقيع: (أنا) ١٠ /ايلول/١٩٨٨
& طوت هالة الصفحة، واستنشقت رائحتها… ورقة صفراء، وشهر سبتمبر يعطرها.
“يااااه، كم مضى من زمن، ولم أرد، بل نسيت الرسالة والوعد.” ليتني رضيت بالتحدي وأخذت قرارًا ما في حياتي، وها أنا هنا… اراوح مكاني
“دق الباب.” قطع شرودها. …”أهلاً أم عامر… تأخرتِ، كدت أشرب القهوة وحدي.”
“آسفة، انشغلت قليلاً مع أحفادي… لكن لا يمكنني أن أنسى موعدي معك، لأبصر لك في الفنجان. خاصة اليوم، القمر مكتمل، وقريب من الأرض.”
شربت هالة القهوة على عجل، وأم عامر قلبت الفنجان باحترافية، محاولة ملء كل جدرانه لتزيد من التفاصيل والوعود والأحلام.
كانت هالة تترقب مجيئها بين فترة وأخرى، لتمنحها الأمل والتفاؤل بتفاصيل ما سيأتي.”فنجانك جميل ومليء بالحكي.”
“لكن، يا هالة، لا تزالين مترددة!”
تابعت أم عامر:”ستجنّينّي! هل يعقل؟ أكثر من عشرة رجال من الحارة طلبوكِ مني، وأنتِ لم تجيبي على أي منهم طوال هذه السنين؟”
اعادت ام عامر النظر إلى الفنجان، وقد حفظته عن ظهر قلب.
“انظري هنا،” أشارت أم عامر إلى رسم رجل ضخم على حافة الفنجان.
“ربما يكون آخر أمل لك. رجل كبير في السن، أرمل، أحواله جيدة، أولاده مسافرون… وهو بانتظار إشارة منك…
قد يكون حلو الاستقرار في هذا العمر.”
لكن هالة لم تعبأ بما سمعت، وراحت أم عامر تثرثر، محاولة أن تملأ الفراغ.
“انظري، هنا في الفنجان، ستنحل مشكلة البيت بإذن الله. لديك أوراق، وستدخلين إلى بناء محكمة، وقضية البيت ستحسم لصالحك.”
“انظري هنا،” أشارت إلى خربشات في زاوية أخرى من الفنجان، “كأنك تترأسين اجتماعًا… والكل بانتظار إشارة منك.”
شردت هالة بذهنها إلى صورة مماثلة، كيف اجتمع زملاؤها في الشركة لئلا تترك العمل وتتخلى عن خبرة سنين طويلة.
هي التي أمضت عمرها بين القطاعين العام والخاص، حتى أحيلت إلى التقاعد، وآن الأوان أن تستريح من العمل كله. لكنها لم تتخذ القرار بعد.
أم عامر ما زالت تثرثر: “في طيارة بالجو، أخبار حلوة، وممكن سفر، وعندك طريق بعيدة.”
لكن هالة كانت شاردة الذهن، وأم عامر تثرثر. الورقة الصفراء القديمة تتفتت بين يدي هالة.
“نعم، أعلنتُ التحدي، لكنني أعترف أنني انهزمت أمام نفسي.
لم أحسم أي خيار في حياتي، ولم أتخذ أي قرار. وبقيت مترددة إلى أن انفضّ الجميع من حولي.
فقدتُ الأم، وخسرتُ الأخ، ولم يعد يطرق بابي إلا أم عامر التي تأتيني كل بضعة أيام لتثرثر فوق رأسي، وتمنحني القليل من الأمل.
أما أنا، فازددت تمسكًا بعنادي وترددي.
“أعذريني، يا (أنا)… فقد خسرت التحدي. أعلنها بعد كل هذه السنين، بعد أن تحولتُ إلى ورقة صفراء باهتة، يملؤها الصدأ.
وتناثرت في الجو فتافيت ورقة صفراء، انتهت مهمتها… وانسحبت من التحدي.حدقت هالة في غبار الورقة المتناثر وكأنها تودع نفسها القديمة
ومن النافذة، يتردد صوت فيروز: “رجع أيلول وانت بعيد، بغيمة حزينة قمرها وحيد…”
“ورقه الاصفر” باكورة قصصي
*لبابة يونس – إعلامية وممثلة سورية
11/11/2025


































