Views: 1
زفرات…
*بقلم سعدالله بركات
لطالما فرحت أمي كما دولابها ، حين يتدبّر أحدنا شؤونه فتخفّ مسؤولياتها لتزيد من تفرّغها له ، على نحو ما أسعدها زواج أختنا الصغرى ، حيث تسارع دورانه على وقع ما تبوح به وتنغّمه من شجن ، على مدى عقود من شغله ، عايش دولا ب أمّي مراحل نشاط متلاحقة ، كان مرفوقا بإ صرارها على تجاوز ما واجهه بين حين وأخر من ظروف ومنغّصات تعطيله ، منها حين أقدمت على كسره لمحاولة راحتها ، فسرعان ما أصلحته وطالبتني بالتعويض كيلا أعيدها ، ولكن حين صدمت بمرض أقعد آخر العنقود ، تضاعف حزنها والأسى ، وقد قاربت عتبة عقدها التاسع ، اضطرت لترك دولابها على مضض ، وأحسبها لاتني تلقي نظرة عليه بين حين وآخر ، أو تهامسه بصبر طال لسنوات ، لا بل توقف قبل رحيلها الهادئ بعقد ونيف وقد شارفت ال ١٠٠ عام وبحمده تعالى أسلمت الروح لباريها مطمئنّة بلا مرض ولا شكوى ، كما هوت بعد أيام السروة التي كانت تصابحها وتماسيها .
في ٢٨-١٢-٢٠٠٦ رحلت صغيرتنا بعد معاناة مريرة وطويلة مع مرض نادر ، وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيلها باحت النفس بأنات لامست قلب والدة في عقدها التاسع وهي تفقد صغيرتها بعد سنوات ملزمة بعنايتها ، كما لامست قلب طفل لم يتمتع بحضن أمّه.
((أيها الأعزاء استميحكم عذراً لدقائقَ ما أردتُ فيها رثاءَ أصغرَ إخوتي /عدلة/ 1964-2006، بقدر ما أردتُ الوقوفَ عند عبرٍ استخلصتها من تجربتنا المرّة في محنتها ، وقدب طالت مع المرض ، وعند قيم لفتتني خلال معاناتي والوالدة والإخوة من المحنة وتداعياتها ،لابل كرّست فينا الأملَ بتغلِّبِ الخيرِ والحبِّ وازدهارِ الحياة ، على الشر والقنوط اللذين يدمّران الحياةَ بعدما يخرّبانِ القيمَ ،فالحياةُ بلا قيم ليست بذات معنى.
ما أردتُ رثاء /عدلة/ ، لأنها ليست أولُ الصبايا اللواتي يغادرن الحياة قبل الأوان ، ولكنها واحدةٌ من اللواتي اختبرهن تعالى عزّ وجلّ وعلى نحو فريد فريد .
كان اختباراً قاسياً قادني والأهل والجيران والأصدقاء ، بالشعور أو باللاشعور، إلى إكبارِ تلك القيم ، قيمِ التضامن المجتمعي وإصدارِ الحكم ، وإن بلا تنفيذ على من خانه ضميرُه فأخطَأ الصواب حتى لا أقولَ تعمّد الخطأ أو التمسك به.
قيمِ المواساة وأثرها في تخفيف المصاب ، وإن كان هذا الجمعُ أحدَ مظاهِرها المشكورةِ ، فإنَ المواساةَ التي تلقيناها مع الوالدة وفقيدتنا خلال محنتها ، هي المواساة الحقيقية ، إن القول الفصل والموقف الحاسم من بعض أصحاب الشهامة ورجاحة العقل ، كانا إلى جانب /عدلة/ وحقوقها ولقد جسدا أروع مواساة لها ولنا ، وساعدنا على عدم الجنوح للخطأ والحمدُ لله ، وعلى تخفيفِ مُصابِنا وعدلة ، بعدما كادَ يتضاعفُ من ظلمِ بعض من تجاهل قيم السماء والمجتمع, إن لم أقل انتهكَ قيم السيدِ المسيح ، وكلّ ما نتمناهُ أن تُعززَّ تلك القيم في مجتمع بلدتنا ووطننا الحبيبين
وهي غيضٌ من فيضِ قيمٍ سماوية وإنسانية تشع من سورية وتظِّللُها ، لابل وتَنفرد بها منذ أقدمِ العصور.
ما أردتُ قولَه في هذه العجالة: دعونا نتعاونُ ونتضامنُ في مواجهةِ أعباء الحياة ونوائب الدهر ، لا أن نزيدها تراكماً وتعقيداً وآلاماً وتكراراً….
ما أردتُها كلمةَ رثاءٍ ، بل زفرات شكرٍٍ لكم ولكل هؤلاء ،** فيوم دعاني النطاسي للإمضاء فهمت الإشارة إلى بدء رحلة المعاناة ومواجهة موازية ومفتوحة مع ما تخِّبئُه تداعياتُ الجراحةِ والمرض، وأما القدرُ فلا مفرَ منه، ((فلا أحد يعرف متى يأتي السارق)).
كان ذلك قبل عقدٍ ونصف امتدت على مدارِ أيامها وسنواتِها وشهورِها رحلةُ المعاناة والألم يومَ كانت /عدلة/ تلاحقني بالتساؤلات متوسلةً إجابةً واضحةً ،إن لم تكن مطمئنة ، كانت الحيرةُ تخطفني إلى المناورة تارةً ، وإلى النرفزة أخرى، إذا لم أجد متنفسا” للإجهاش في بكاء الأخت حيّة ، وقد باتت صماءَ ، قبل أن تفقدَ الرؤية ، ويتوالى على جسدِها مبضعُ الجراحين ، وعلى نفسيتها بعض سهام النكران ، وقد أقعدها شللُ ورم دماغي وصف بأنّه فريد و حميد
فماذا لو كان خبيثا”…؟
خمسةَ عشر عاما” بلياليها ، من طبيبِ أذنٍ ، إلى جراحِ عينٍ أو صدرٍأو أعصابٍ، ومن مشفى إلى آخر ، وبينَ كلِّ هذا وذاك ، كان انتظارُ عيناتِ التحليل وقرارُ أطباءِ التخدير، مثلَ ترقبِ نتائج الجراحات، غامرنا في خوضِها بعد الاتكالِ على الباري القدير، وقد غمرنا بنعمتِه كما غمرتنا أفضالُ السادةِ الأطباء والمعالجين والزملاء جهودا” ورأيا”، ولما كنت وحيدا” أعرفُ المآل كان عليّ أن أداري مشاعرَ الوالدة ، قبل مشاعرِ الأخت التي امتحنها ربُّها فصبرت ولم تقنط حتى أيامها الأخيرة من رحمته التي انتقلت إليها في يوم مثلج أواخر عام 2006.
كان الناس يتواصلون الفرح من عيد ميلاد إلى أضحى إلى رأس السنة وكان الثلج في إحدى زياراته النادرة للبلدة (( صدد )) الأبيضُ رطّب ثراها ، مع دموعِ الأم والأخوة والابن الوحيد الذي افتقدَ رعايتها مبكرا” ،وتألّم لمرضها قبلَ أن يتألم لفراقها، وأمّا بكائي ، فقد كان على معاناتها وما حُرمته من فرح الحياة ، لكنها ظلّت متمسكةً بأملٍ كنتُ الوحيدَ الذي أعرفُ أنه سرابٌ سراب، بكيتُ وأمام المعزين وفي قلبي غصةُ و في بكائي مزيجُ من ألمٍ ومن امتنانٍ وشكر لكل الذين وقفوا مع /عدلة/ في مشوار محنتها من مرض أو بعض ظلم، بكيت صباها وطموحَها العلمي ونشاطها التعليمي بشهادة الزملاء والطلبة ، كانت تدفعُ التعبَ بفرح نجاح طلبتها ، كما كانت تدفعُ الألمَ والمحنةَ بإيمانِها بالله ، وبتعلقها بابنها الوحيد وقد كان لموقف المساندين لها أثر في النفس ولمّا يزل.
مرة أخرى شكرا” لكل الأطباء ، ولكل ممرّض ومعالج ، شكرا لأقاربِ ولجيران ولأصدقاء ولكهنة البلدة وجوارها ، الذين لم يبخلوا بجهودٍ إضافية مكللة بكل عطف وحنان وصلوات .
وهنا اسمحوا لي أن أخصّ بالشكر نيافة الحبر الجليل مار سلوانس بطرس النعمة الذي كان لحكمته الأهمية الكبرى يوم كان راهباً ، والشكرُ موصولٌ لنقابة المعلمين ، ولكل من ساهم في تخفيفِ ألم / عدلة / ، وأما الذين نسوا أو تجاهلوا الموقف والواجب ، فليسامحهم الله / ولعلّها سامحتهم / ويرحم الأخت آخر العنقود التي أدت رسالة لم تكتمل . فماذا لو عرفت بنيلِ وحيدِها شهادته بل فرحته .
*كاتب وإعلامي سوري أمريكي
***من رواية دولاب أمي ١٣






























