Views: 4
ليست طويلة، أرجو قراءتها للآخر.
تبسمت عشتار في الغربة
بعد عناء ثلاثة أيام أنهينا فيها معاملة جواز السفر العراقي في برلين، أخذت ابنتي هانّا نفساً عميقاً لتقول:
_ ماما! راح أنفذ البرنامج اللي وعدتك بي، نزور أولاً متحف برلين Pergamun.
دخلنا المتحف وكانت هانّا تقوم بالواجب على أحسن ما يرام حتى أنها تهيأت مسبقاً للحصول على خريطة المتحف. وصلنا لشراء التذاكر فأخرجتُ هوية صحافة الاتحاد الأوربي ضاحكة: سأوفر لك عشرين يورو.
هناك للصحفي مكانة وتقدير خاص.
_ ها ماما، نبدأ بآثار العراق؟
_ طبعاً.
كانت هانّا تنتظر لحظة رؤيتي لباب عشتار وترقب أي نأمة تصدر مني. وقفتُ مذهولة أمام البهاء، أرنو إلى ذلك العرش المرصع بالألوان فاغرة فمي والدمعة كادت تهطل من عيني. تسمرت في مكاني حتى ربتت ابنتي على كتفي لتهمس:
_ ماما المتحف كبير راح تبقين هنا؟.
سحبتني من يدي وبدأت تقرأ ترجمة المكتوب بالحروف المسمارية إلى اللغة الألمانية. قلت لها: انت ِاستمري تفرجي على الآشوري و سآتي بعدك.
وقفت أرقب البوابة فظهرت عشتار من خلفها، تفرد جدائل شعرها على نهديها النافرين العاريين، تبسمت لي وقالت:
_ أنا عشتار الجليلة الهة الحب والخصب والجمال، علامَ تبكبن يا عشتار القرن العشرين؟
أعيش في الغربة معززة مكرّمة بعد أن أهانني و ذلني ֤گلگامش في مملكتي وعدد مثالبي مع الرجال لأنني أخترته زوجاً لي وقرر أن يأكل من خبز أمه بديلاً لخبزي ، واصفا إياه بخبز الخنا والعار.
لكنه لم يعرف جحود المرأة، فقلبت أعاليها سافلها وأنزلته كباقي الرجال إلى العالم السفلي وأرسلت ما تسمونهن بالبغايا إلى أنكيدو ليعلمنه فن المرأة حتى أصبح خله وصاحبه بعد صراع معه، ولما رأى هول العالم السفلي بعد موت إنكيدو راح يبحث عن الخلود ولم يحصل عليه، لكني بقيت خالدة هنا.
فتحت فمي كي أخبرها عن الذي أراد أن يكون گلگامش القرن العشرين فقاطعتني بقولها ساخرة:
_ هاها.. هو الآخر لم يترك عذراء لخطيبها، ذلك المعتوه القاتل. لقد لوث جدران بابل بحفر اسمه عليها كي يبقى خالداً كگلگامش وهو الآخر نزل برجليه إلى عالم سفلي حقير. هل استطاع نقل القصر الذي بناه هناك كي يأخذه معه؟
_ لا أيتها الجليلة، هو سرق الأرض وشردنا.
_ لقد سرق منك الأرض وسنين عمرك بعيداً عن الأهل والأحبة، عن أي أرض مغتصبة تبحثين؟ وعدتِ بعد سنين طوال لتجدين بديلاً له الأوغاد الجدد الذين أكالوا لك الإهانة والذل و تعودين فارغة اليدين، لم تحصلي على أي حق لك، لكنك تقطعين المسافات إلى هنا من أجل جواز سفر لا قيمة له بعد أن سقطت هيبته لأنك متمسكة بجنسيتك ولست أدري لماذا؟ ماذا جنيتِ منها غير الذل في مطارات وطنكم العربي الذي يحتقر أبناءه؟ أنتم تتفاخرون بنا” نحن بلد الحضارات” . تخلفتم مئات السنين وبغاياكم يدّعين التقوى خلف النقاب. والكثير من رجالكم يتاجرون بالشرف ويمتهنون النساء قبل الصلاة. والكثير من النساء المتعلمات الواعيات يزنين بورقة السيد المحتال. هل نسيتِِ كيف منعوا ابنتك من دخول وطن أمها؟
كم سعيدة أنا الأن لأن الألمان سرقوا بوابتي لإنقاذها من براثن من حطموا آثارنا باسم “الله أكبر”، وأغتصبوا النساء وأنتم تتفرجون وكأن شيئاً لم يكن، أين العزة والكرامة؟
_ سقطت في الحضيض. لم أنس ولم أعد أبحث عن أرض يا عشتار الجليلة.
قاطعتني هامسة:
_ ألا تسمعين أنين إنانا ” هانّا ” ابنتك” ؟ اسرعي عبر شارع الموكب ستجدين في نهايته القسم السوري.
كنت أسير في شارع الموكب والموسيقى البابلية تتهادى إلى مسامعي حتى وجدت ابنتي في القسم السوري، لم يستطيعوا نقل آثار سوريا كما يبدو. وجدتُ هانّا تقف أما الصور تئن بالفعل وتمسح دموعها لتقول لي:
_ شوفي ماما السفلة فجروا آثار بعل تتذكرين من كنت صغيرة رحت معك وعندنا صور هناك، وبعدين مع أصدقائي المجريين لما درسنا بسوريا، ياريت سرقوه الألمان مثل باب عشتار وآثار العراق. راحت معلولة وتدمر. هم ذولة مسلمين؟ تعالي نشوف بانوراما الإغريق!
كان شيئاً مذهلاً يحبس الأنفاس ما فعله الألمان ليعيدوا مجد الإغريق برسم وبناء عالم متكامل من زمن لم تبق منه سوى الآثار هناك.
قبل أن نخرج طلبت من هانا أن نعود إلى باب عشتار لألتقط لها بعض الصور مع مسلة حمورابي لكني في الحقيقة أردت توديع عشتار. انشغلت هانّا بالتصوير فهمستُ لعشتار أن تظهر من جديد، كانت قد استدارت فرأيت تكورات َكَفَلَها وجسدها الأخاذ الذي أغوت به الرجال.
_ عدت لأقول لك يا ربة الحب والجمال إن ما قلتهِ أنت هو قطرة ماء في بحر لما حدث ويحدث. قاطعتني بقولها:
_ أعلم ذلك لكني اختصرت الحكاية عني وعنك بسبب دمعتك.
عدت لأقول لك:
_ لن أنتمي إلى أي أرض تطأها أقدام البشر، لقد قررت أن يُحرقَ جسدي ويُذر الرماد على أرض خضراء عبر نافورة ماء بصحبة موسيقى قيثارة سومرية. استدارت بعنقها فقط صامتة لتتبسم لي من جديد.
أخذتُ بيد ابنتي، إنها وطني، وخرجنا لتناول الغداء فتوقفتُ عند نصب نحتي لأشخاص بمختلف الأعمار يرتسم الهلع على وجوههم قرب مكان أكله العشب، رُكنتْ على جدرانه شواهد قبور وبعضها بقي سالماً في مكانه. قرأت ابنتي القطعة المعلقة على الجدار:
_ ماما مكتوب: هذي كانت مقبرة لليهود قصفها النازيون.
_إمشي بنتي إمشي حتى الموتى ما سلموا منهم، ما أعرف بأي شي أوصف الإنسان!!.
اعتقال الطائي
2022-04-04
بودابست
Discussion about this post