Views: 23
تأملات في ديوان رحيق الألم للشاعرة التونسية راوية جراد
بِـقلـم : سعيد يعقوب
وأتساءل ويتساءل معي كثيرون هل للألم رحيق؟ وما عرفنا له إلا طعم المرار والعلقم، ونكهة الصاب ووجع الأنين وغصة الآهات، وصوت الأنَّات فكيف يكون له رحيق؟!
وتغرق النفس في البحث عن إجابة، وتجدها عند من تكشّف له الألم عن إبداع، ولدى من حوَّله إلى بوح شفيف، وغزله حروفا رقراقة، وحاكه على نول الأوزان العذبة، لينسج منه فرحًا ويستخرج منه رحيقًا، ويعتصر من كرمه خمرة لذَّة للشَّاربين.
الشاعرة راوية جراد حين تعزف على أوتار الروح، وتستثير مكامن المشاعر والأحاسيس الغافية من أعماق القلوب، وأغوار النفوس، وتحرك أجنحة الروح؛ لتحلق في فضاءات المتعة وفي أمداء النشوة؛ فترتشف من هذا الرحيق المستخلص من أزهار الوجد، ومن ورود الشوق ، ومن رياحين الشغف واللهفة والهيام.
وهي تطوف في حقول الفكر، وترفرف بجناحي حروفك في مروج النبض، وفي بساتين الحسِّ؛ لتسقي المتعبين والعطاشى من كؤوس القصيد ما يبقى بها الشارب نشوانا ثملا، لا يكاد يفيق من هذا الرحيق المختوم.
راوية جراد شاعرة تونسية تنطوي روحها على كل الإرث الحضاريّ، لمدنية راسخة في تلافيف الوجدان التونسي؛ تطالعك بما حمله أهل المشرق إلى أهل تونس، وما هبّ عليها من أهل الأندلس، فتشكّل هذا المزيج الخصب من عاطفة المشرقيين، ومن رقة الأندلسيين؛ لتجسّد الملامح الأساسية التي تقوم عليها تجربتها الثرية في عالم الشّعر، ولتسجّل بذلك بصمة خاصة بها؛ ولتنتصب بكل بهائها، قامة سامقة على شاطئ الشعر التونسي، ومنارة ترسل أضواءها من بعيد لتجذب السفن والمراكب والأشرعة، فتستقرّ على جوديِّها لتنهل من رحيقها هذا الموشوم بإمضائها.
ولعمري إن تونس لحَرِيَّة وخليقة بأن تنجب عمالقة، وقامات في عالم الشعر، بما تكتنزه من حضارة وما خُصَّتْ به من بيئة طبيعية خلاّبة ، وطبيعة ساحرة، وهل يكون المرء إلا ابنا شرعيًّا لبلاده، وطبيعتها؛ جبالها وسهولها وبواديها وشطآنها!! فتترك أثرها في طبائعه، وتسهم في صياغة سلوكه، وتبني شخصيته، وأنماط تفكيره، وأنساق ميوله وأهوائه ونزعاته.
وما أبو القاسم الشابي عنا ببعيد، فلا عجب إذن إن رأينا كل هذا الجمال، ولمسنا كل هذه الرقة والسلاسة، في حروف شاعرتنا، وانحيازها المطلق لكل ما هو جميل، ومقدس ونبيل وإنسانيّ، في هذه الحياة.
ولعل من الأشياء المهمَّة التي أودُّ أن ألفت النظر إليها هنا، وهي في اعتقادي ممَّا يستحق التسجيل والتنويه له أنّ شاعرتنا المبدعة راوية جراد تملك صوتها الخاص بها وحدَها لا يشبه غيره من الأصوات، فهي لا تقلد أحدا، ولا يظهر لمن تقدَّمها من الشعراء أي أثر في شعرها، بخلاف عامة الشعراء عادة، وخاصة في بدايات تجاربهم الشعرية ولكن شاعرتنا كانت بعيدة، كل البعد عن غيرها من الشعراء، فهي صاحبة شخصية شعرية مستقلة وذات نكهة شعرية خاصة بها مميزة وبصمة واضحة.
ولعل اللافت في “ديوان رحيق” الألم هذا التمسك بعمود الشعر والحرص على سلامة اللغة والعمق في المضمون الفكري الذي تنطوي عليه قصائد هذا الديوان الماتع، ولكن هذا النمط الشعري، لم يقف عند حدود التقليد، ولم يركن إلى الجمود ولم يُـقـم على حدود التكلّس والتحجّر، هو شعر كلاسيكي في شكله ، إلا أنه شعر حداثي في جوهره ومضمونه فهو شعر لا نظم، تتوهَّج فيه العاطفة وتشعّ فيه الصور الفنية وتضيء فيه الالتقاطات الذكيّة وينحاز للتجديد والابتكار ويرشح بالموسيقى العذبة، والقوافي الآسرة، ممَّا يترك القارئ مستمتعًا بما يقرأ، يودُّ ألا تنتهي هذه المتعة التي يحسُّ بها وهو مستغرق في استجلاء هذه الحروف المتدفقة، التي تصوِّر مشاعر صاحبتها أدق تصوير، وتعبِّر عن خفقات قلبها وخواطر فكرها أبلغ تعبير.
وواقع الأمر أن المشهد الشعريّ العربيّ يشهد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نهضة شعرية، على يد عدد كبير من الشعراء الشباب في أقطار الوطن العربي جميعها، ممَّن انحازوا بشكل سافر لهذا النمط من الشعر أعني الشعر العمودي بعد أن لمسوا ما فيه من مواطن الجمال والقوة والعذوبة، بعد وصول قصيدة التفعيلة إلى طريق مسدود وتخلّى عن كتابتها حتى مَن نظَّروا لها ولعلَّ في طليعتهم الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، في آخر أيامها، وقبل رحيلها وبعد الانفلات الكبير، الذي ترتب على ظهور قصيدة النثر، واستسهال كتابتها من قبل كثيرين، ممَّن لا علاقة لهم بالشعر حتى أوصلوا الشعر إلى حالة لا يُحسد عليها، من الاستخفاف به والتطاول عليه ؛فأحدث ذلك ردة فعل لدى المبدعين الموهوبين من الشعراء الشباب الذين حاولوا أن يردُّوا للشعر اعتباره، وأن يعيدوا له مجده، ولقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد، ولعل شاعرتنا المبدعة الموهوبة راوية جراد من بينهم وربما في مقدمتهم .
ونحن إذ نبارك لشاعرتنا الفذة المبدعة ديوانها “رحيق الألم”، ونتمنى له النجاح والتوفيق والألق الدائم؛ لتثري مكتبتنا الشعرية العربية، بالمزيد من الدواوين، ندعوك أيُّها القارئ الكريم لتذوُّقِ هذا الرحيق المختوم؛ لتشعر بما شعرنا به من متعة ونشوة ولذة، ودِدْنا ألا تنتهي ولا يكون لها ختام، وقد آثرنا ألا نستشهد بشيء من أبيات هذا الديوان؛ حرصا على عدم الإطالة، ولنترك فرصة اكتشاف مواضع الجمال فيه لذوقك، الذي لا يخامرنا أدنى شك بأنه ذوق رفيع، قادر على الوصول لهذه المواضع، والوقوف عليها.