Views: 3
المتنبي في بلاط البويهيين
رحلة تلاها الوداع الاخير
“””””””””””””””””””””””””””””””””””
عاد المتنبي إلى مسقط رأسه في الكوفة بعد تجربتين مريرتين في حلب ومصر. أخذ يحلم بعدهما بحياة هادئة ووادعة ، ولا سيما أنه كان قد جنى أموالا تؤهله لحياة رافهة جدا . لكن هذه الكوفة تعرضت إلى غزوتين من القرامطة ، قاتل فيها المتنبي القرامطة إلى جانب أغنياء الكوفة ، وفي الغزوة الثانية كان له دور فعال في إفشال الغزوة . ولم ينس الخليفة العباسي له هذا الدور فأرسل له هدية ثمينة مكافأة له على ما قام به . ساعدت هذه الهدية المتنبي على القدوم إلى بغداد التي كان يخشى سلطاتها بعد ان تعرض لهم بالهجاء أكثر من مرة ولا سيما في قصيدته اللامية التي مطلعها :
مالنا كلنا جو يارسول
انا أهوى وقلبك المتبول
وفيها يقول :
ماالذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
(الشمول : الخمرة )
وهو بيت وقعه شديد على السلطات العباسية في بغداد ، في حين أنه ساحر لقارئه وفاتن في معناه ومبناه .
اتخذ المتنبي قراره بالذهاب إلى بغداد عاصمة الثقافة والحضارة العربية والشعر العربي ٱنذاك ، مخلفا وراءه الكوفة بلدته البائسة . فتوجه إليها وهو مكسور الخاطر ، ليس له في سلطة بغداد اصدقاء أو أنصار . ولذلك دخلها بحذر شديد ، لانه يعرف أن سلطات بغداد تعتبره غير مرغوب به ، ولاتأمن لسانه . فاقتصرت نشاطاته هناك على حضور بعض الحوارات الثقافية ولقاءاته مع محبي شعره وتلاميذه . ومع ذلك ، راح شعراء بغداد يهاجمونه ويهجونه ، ولاسيما بعد أن رفض أن يمدح المهلبي وزير معز الدولة البويهي الحاكم الفعلي لبغداد ؛ لأنه لم يجده أهلا لمديحه ، فالمهلبي ليس ملكا ولا أميرا ، ولا وزيرا برتبة أمير ، ولذلك أعرض عنه ولم يبادر إلى مدحه ، والحقيقة لو أن المتنبي حاول مديحه فلن يستطيع لأن شاعريته ترفض ذلك ، فهو يمدح من يقتنع به فقط ، حتى ولو أراد غير ذلك ، وقد اضمر له المهلبي حقدا وشجع شعراء بغداد على النيل منه وهجائه ، لكن المتنبي أخفى غضبه ، وتظاهر بالرزانة ، على غير عادته .
غادر المتنبي بغداد التي لم يحبها ، كما احب حلب والشام ، وعاد إلى الكوفة البائسة . وهناك وصلته رسالتان ، إحداهما من سيف الدولة يدعوه فيها إلى زيارة حلب ، والثانية من شخصية بويهية مرموقة هو( ابن العميد ) وزير ركن الدولة ملك الري في بلاد فارس يدعوه فيها أيضا لزيارته ، ومن الجدير بالذكر أن الدولة البويهية التي فرضت سيطرتها على بغداد والخليفة العباسي . كانت ترتكز على ثلاثة أمراء كبار ، هم عز الدولة حاكم بغداد وأخوه ركن الدولة حاكم الري في بلاد فارس ، وعضد الدولة ابن ركن الدولة حاكم شيراز .
في( أرجان) لدى ابن العميد :
“”””””””””””””””””””””””””””””””'””””””””””‘
قرر ابو الطيب أن يلبي دعوة ابن العميد ، وزير ركن الدولة ، فتوجه إلى أرجان مكان إقامته . ولم تأت هذه الزيارة الا بعد أن فكر فيها المتنبي طويلا ، فابن العميد علم في الثقافة والأدب ، ومكانته السياسية والاجتماعية لايطالها شك ، وهو مشهور بالكرم ، وشاعر مجيد وناقد من طراز رفيع . ولاشك أن المتنبي كان يعرف عنه ذلك ، ومع ذلك كان يأمل أن يكون ابن العميد الوسيلة المثلى للاتصال بركن الدولة . وقد بدأت بين ابن العميد والمتنبي صداقة عميقة ، ولم يتردد في مديحه ، مع أنه كان يحسب له حسابا إذا مدحه ، حتى لايلتقط ابن العميد بعضا من شعره يؤاخذه عليه . وبالفعل فقد مدحه المتنبي بثلاث قصائد ، الأولى والثالثة لم تكونا على مستوى يعجب ابن العميد ، وقد صارح المتنبي بذلك ، وقدم الأخير مايشبه اعترافا به . أما قصيدته الثانية المعنية فهي من القصائد البارعة جدا في شعر المتنبي ، و جاءت بمناسبة عيد النيروز ، ومنها :
نحن في ارض فارس في سرور
ذا الصباح الذي نرى ميلاده
زانت الليل غرة القمر الطا
لع فيه ، ولم يشنها سواده
والذي عندنا من المال والخ
يل ، فمنه هباته وقياده
فبعثنا بأربعين. مهارا
كل مهر ميدانه إنشاده
* * *
في القصيدة جدة في تناول المتنبي لموضوعات القصيدة . ولا سيما أن المادة الشعرية أمامه مسفوحة بكثرة ، التكريم النادر ، والطبيعة الخلابة ، والكرم البالغ ، والثقافة الرائعة التي يتمتع بها ابن العميد . .
ومع ذلك لاتهزنا الأبيات ولاشاعرية المتنبي الٱسرة في هذا النص ، وبالتأكيد ينسحب هذا التعليق على قصائده الأخرى .
هل كان المتنبي العربي القح يشعر بالغربة ؟ وهل كان يحس بابتعاد عن ماضيه الذي انتصب أمامه واقفا ؟ ام أن الصحراء التي أحبها وأحب نساءها بشغف كانت المسيطرة على مشاعره وخاض معها حربا حتى أتى بهذا النص ؟
لا اظن أن المتنبي كان ، رغم التكريم والكرم الكثير ، راضيا عن نفسه . واغلب الظن أنه قمع تلك المشاعر الداخلية ؛ لكي لاتظهر على سلوكه وشعره . وما من شك ان ابا الطيب كان طيبا ووفيا ، ولديه
مسوغات لهذا الطارئ الجديد على حياته .
امضى المتنبي حوالي شهرين في أرجان الجميلة في ضيافة ابن العميد ، وكان ينوي الذهاب الى الري لزيارة ركن الدولة ، ولكن ابن العميد أشار عليه أن يلبي دعوة ابنه عضد الدولة في شيراز ، لما يتمتع به من شباب طامح وشجاعة وجرأة ، وهو بحاجة إلى طاقة إعلامية هائلة لايمكن لأحد أن يملأها كالمتنبي ، فمضى بدون تردد إلى شيراز حيث عضد الدولة .
ودع المتنبي ابن العميد وداعا حارا ، ومن المؤكد أنه وجد في الاخير ضالته ، فهو رفيع المقام رفيع الثقافة رفيع الخلق ، وهذه كلها يهيم بها المتنبي . وقد تجلى هذا الإعجاب بتلك الحرارة في قصيدته التي ودعه بها ، ومنها :
تفضلت الأيام بالجمع بيننا
فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني
مخلف قلبي عند من فضله عندي
ولو فارقت نفسي إليك حياتها
لقلت أصابت غير مذمومة العهد.
المتنبي عند عضد الدولة في شيراز
“””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””
توجه المتنبي إلى شيراز برغبة واضحة ، فعضد الدولة أمير يطمح إلى الاستيلاء على العراق ، ولديه من المؤهلات مايتيح له ذلك ، ابن الأسرة المالكة ، وشجاع وجريء وكريم ويحب الأدب والثقافة ، وقد وجد هو أيضا مايتمنى في المتنبي الشاعر الكبير الذي إذا قال قصيدة تتداولها الدولة العباسية من أقصاها إلى أقصاها . وربما تكون هذه المرحلة تكرارا لمرحلة المتنبي مع سيف الدولة ، وتشبهها في نواح عديدة .
استقبل عضد الدولة المتنبي استقبالا حافلا ، كان متوقعا قيام علاقة منتظرة بين الرجلين العظيمين . نسي المتنبي شجونه وهمومه في العراق الذي لم يستطع أن يحصل على مكانة به ، أما الٱن فهذا عضد الدولة الذي يحلم بان يخلف عمه معز الدولة في حكم العالم الإسلامي أصبح صديقه الشخصي ، ومعه تنامت أحلام المتنبي ، حيث سيتعرف على الأقل على معز الدولة ، وسيكون شاعر الدولة العباسية بدون منازع ، والحقيقة أن قصائده في عضد الدولة كانت رائعة فنيا وجماليا . و ساعده على ذلك إعجابه الشديد بشخصية عضد الدولة ، وعلى الرغم من أن المتنبي لم يقم في شيراز اكثر من ثلاثة أشهر ، فإنه أكثر من مديح الأمير ، وما دفعه إلى ذلك أعجابه غير المتوقع بالبيئة الحضرية في شيراز ، والطبيعة الساحرة فيها ، والأهم أن أموالا هائلة اغدقها عليه الأمير ، وعطايا لاتقدر بثمن .
وست القصائد التي قالها في عضد الدولة ذات فنية رفيعة المستوى ، ولاتقل شأوا عن قصائده في سيف الدولة ، ولكنها لم تأخذ حقها من الدراسة . ولعل قصيدته في شعب بوان جابت العالم الإسلامي ، ونورد الٱن بعضا من آبياتها :
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وألقى الشرق منها في ثيابي
دنانيرا تفر من البنان
وامواه تصل بها حصاها
صليل الحلي في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الورق فيها
إجابتها اغاني القيان
بعضد الدولة امتنعت وعزت
وليس لغير ذي عضد يدان
ولاتحصى فضائله بظن
ولا الإخبار عنه ولا البيان
حمى أطراف فارس شمري
يحض على التباقي بالتفاني
ولم أر قبله شبلي هزبر
كشبليه ولا مهري رهان
أشد تنازعا لكريم. أصل
وأشبه منظرا بأب هجان
ولولا كونكم في الناس كانوا
هراء كالكلام بلا معان
*. *. *
ويبدو أن المتنبي كان حرا في تناوله اي موضوع ، يساعده على ذلك سعة صدر الأمير ، ولذلك لم يجد المتنبي حرجا في أن يعرب عن تمسكه بالعرب وبدمشق ، فعضد الدولة كان أكبر من ذلك ، وكان يحضر نفسه لأعظم منصب في الدولة العباسية . وحين طلب المتنبي مغادرة شيراز لم يمنعه من ذلك وإن يكن طلب منه البقاء فترة أطول ، أما المتنبي فقد وعده بالعودة إليه ثانية ، فقبل منه الأمير ذلك ، وهكذا غادر شيراز دون أن نعرف اتجاهه ، غير انه كان يظن أن أبواب المجد فتحت له حين يتصل بمعز الدولة حاكم بغداد ، وراحت الٱمال العريضة تداعب مخيلته ، فهو سيصبح شاعر الدولة العباسية كلها , ولم يكن يخطر في باله أنه لن يصل إلى بغداد ولا إلى حلب ، وأنه سيلقى حتفه قبل ذلك على الطريق ، وإن دمه الطاهر سيسفك في الصحراء التي أحبها ، وها هو الٱن يعود إليها مضرحا بدمائه ، وتتم الإطاحة بكل ٱماله وأحلامه ، ويموت أبو الطيب المجيد العظيم الطيب غريبا ووحيدا .