Views: 10
في رحاب الأدب
أغدا ألقاك ..
بين( الهادي آدم، و كوكب الشرق، و عبدالوهاب )
يمرُّ بنا الهادي آدم في رائعته الشهيرة “أغدا ألقاك وعبر صوت السيدة أم كلثوم ليشعل في قلوبنا جمر الذكريات فتختال قناديلُ الأحلام ومراجيح الأمنيات الجميلة
ويحملنا الحنين من ليالي القاهرة، إلى حواضر العُرب وعواصم الدنيا ومدارج الطفولة وأيام الفتوة واليفاعة ..
أغدا ألقاك يا خوف فؤادي من غدي
يالشوقى واحتراقي في انتظار الموعد”
يقول محيى الدين سعيد
“من فى بلادنا العربية لم تتمايل كل ذرات وجدانه طربا وهياما وصوت “الست” يتردد بقوته المعروفة:
أنت يا جنة حبى واشتياقى وجنوني
أنت يا قبلة روحى وانطلاقى وشجوني
أغدا تشرق أضواؤك فى ليل عيونى ؟”
يالها من لغة ساحرة جميلة ويا لها من مشاعر صادقة نبيلة تألق فى نظمها شعرا “الهادى آدم ،” وأبدع فى رسمها لحنا الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكان لاثنين من أطرافها الست وعبدالوهاب ما لهما من شهرة طافت الآفاق، ولم يكن الهادي آدم معروفا وقتها، وقد تعددت الروايات حول النص وقصة كتابته
في الصحافة العربية ..
كنت في زيارة قصيرة لصديقي الدكتور محمد صلاح في الدقي في ليلة من ليالي القاهرة الجميلة وكان مغرما بالسودان واهله وفي طليعتهم الشعراء والأدباء، فقرأ لي قصيدة “الأم” التي كتبها الهادي آدم والتي يقول فيها:
من كان يسقيني ومن ذا يطعم ..معنى فيدرك ما أقول ويفهم
فإذا أجن الليل مهدي من ترى… يمسي يهدهده ولا يتبرم
من ذا يطيع أوامري ومن الذي… في ليله ونهاره أتحكم
أمي ويا لفؤادها من جنة… كم ذا نعمت بها وكم ذا أنعم
ولكم مرضت فلم يحالف جفنها… غمض فتسهر والبرية نوم
حتى إذا كشف السقام قناعه…. عن مقلتي وزال ما تتوهم
طفرت دموع البشر ترسم فرحة… فيها الحنان العبقري مجسم
حاشا الأمومة ما نسيت حقوقها.. وعهودها فهي الأبر الأرحم”
يالها من جنة وارفة الظلال قلتُ: معلقا على القصيدة
فعلق د. محمد صلاح بلهجته المصرية الجميلة عارف يا صديقي: الهادي آدم حكايته حكاية عجيبة يريد أن يتحرر من قيود (أغدا ألقاك ) وهو لا يُعرف إلا بها!..
وصرح الهادي آدم في حوار أجرته معه في القاهرة أسماء الحسيني أن قصيدته أغدا ألقاك التي وصفتها أم كلثوم بأنها من كنوز الأدب وهي بوابته إلى الشهرة في العالم العربي قصيدة عادية مثل بقية قصائده، وان سبب شهرتها هو صوت أم كلثوم ولحن محمد عبدالوهاب،
وهنا يبد واضحا محاولته الخروج من نفق أغدا القاك إلى فضاءات آدم الإبداعية الرحبة التي أصابتها لعنة النص المثير فطمرها غبار النسيان ..
للكاتب (صالح النعاشي) مقالة في صحيفة الرياض السعودية في اكتوبر 2020م تحت عنوان (قصيدة عاشت لتسجن شاعرها) قال:
“في ليلة انتظار لقاء مرتقب كتب شاعر سوداني اسمه الهادي آدم في مذكرة يحملها معه أينما ذهب نصاً شعرياً عنونه بقصيدة (الغد) وكان مطلع النص هكذا:
أغداً ألقاك يا لهف فؤادي من غد
وأحييك ولكن بفؤادي أم يدي
وبعد سنوات من كتابة القصيدة ضمنها في ديوانه الأول (كوخ الأشواق) الذي لم ينتشر كثيراً !
بعد خمس سنوات تقريباً من صدور الديوان وفي العام 1970 تحديداً زارت أم كلثوم السودان وغنت هناك حفلتين في إطار حملتها لدعم المجهود الحربي في مصر بعد النكسة العام 1967، عادت من هناك وهي تحمل في صدرها شحنة دافئة من الحب للسودانيين كما يصف ذلك الصحفي المصري صالح جودت.
قررت أن تقدم شيئاً للسودان.. اقترح عليها أحدهم أن تغني لتلك البلاد، لكن أم كلثوم قالت لا بل سأغني لشاعر سوداني وكلفت الصحفي صالح جودت بترشيح عدد من النصوص لتختار أحدها لغنائه.
يقول صالح جودت عن ذلك: (اتفقنا على أن نبحث عن القصيدة المنشودة، وطفت بمكتبات القاهرة واستعنت بالأصدقاء فتجمعت لدي سبعة دواوين لسبعة شعراء، ومضيت أدرسها ثم اخترت من كل منها قصيدة تتوفر فيها الصلاحية الغنائية، وأرسلت القصائد السبع لأم كلثوم لتفاضل بينها).
سألته أم كلثوم عن القصيدة التي اختارها تحديداً، وقالت له إنها ستقول له بعد ذلك رأيها.. قال: قصيدة الغد للهادي آدم.. وبروحها المعتادة قالت: «برافو علي» فهذه هي القصيدة التي اخترتها.
تم الاتصال بالشاعر وإبلاغه بذلك.. كان الخبر عظيماً بالنسبة له، وكان انتظار خروج العمل بصوت أم كلثوم أكثر أهمية من ذلك اللقاء الذي كان ينتظره الشاعر وكتب من أجله قصيدة الغد.
طلب من الهادي آدم السفر إلى القاهرة والاجتماع بالموسيقار محمد عبدالوهاب وأم كلثوم لمناقشة التعديلات التي تلائم اللحن!
بدأت التعديلات وخرج النص، وكأنه نصّ آخر غير ذلك النص الذي كتبه في لحظة شاعرية صادقة.. خان الهادي آدم مشاعره ونصه من أجل مجد تسجيل اسمه في قائمة شعراء أم كلثوم.
خرج النص (الأغنية) كأجمل ما يتمنى الإنسان وباسم مختلف (أغدا القاك؟) ومطلع يقول
فيها:
أغدا ألقاك ؟ يا خوف فؤادي من غد
يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد
آه كم أخشى غدي هذا ، وأرجوه اقترابا
كنت استدنيه ، لكن ، هبته لما أهابا
وأهلّت فرحة القرب به حين استجابا
هكذا أحتمل العمر نعيما وعذابا
مهجة حرى وقلبا مسه الشوق فذابا
أغداً ألقاك ؟
أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغدا تشرق أضواؤك في ليل عيوني ؟
آه من فرحة أحلامي ، ومن خوف ظنوني
كم أناديك ، وفي لحني حنين ودعاء
يا رجائي أنا ، كم عذبني طول الرجاء
أنا لولا أنت لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا في غدي الآن بأحلام اللقاء
فأت، أو لا تأت أو فافعل بقلبي ما تشاء
هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفكر
هذه الدنيا ليال أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيون أنت فيه البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
فارحم القلب الذي يصبو إليك
فغدا تملكه بين يديك
وغدا تأتلق الجنة أنهارا وظلا
وغدا ننسى ، فلا نأسى على ماض تولى
وغدا نسمو فلا نعرف للغيب محلا
وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر أحلى..
نجحت الأغنية وعرفت الساحة الأدبية شاعراً عظيماً اسمه الهادي آدم، لكنه استمر أسيراً لنجاح ذلك النص، ولم يستطع تجاوزه للحد الذي يجعله يشترط قبل أي لقاء صحفي معه عدم سؤاله عن ذلك النص أو الأغنية.
خرجت المجموعة الكاملة بعد سنوات، وحاول الهادي آدم أن يكفر عن ذنب خيانة مشاعره بوضع النص الأصلي في الديوان وبنفس عنوانه القديم (الغد) لكن ذلك لم يلفت الأنظار إليه!
في البداية كاد أن يموت ذلك النص دون أن يعرفه أحد، لكنه عاد ليتصدر المشهد باسم جديد، وشكل آخر متخلياً عن زيه القديم ليعيش إلى الأبد لكن بعد أن قرر أن يسجن شاعره داخل قيود تلك التعديلات ويبقى إلى الأبد (شاعر أغداً ألقاك .. الهادي آدم) وبغير هذا التعريف لا يُعرف”..
عندما فارق الدنيا نعته الصحف ووسائل الإعلام العربية بـ «رحل صاحب أغداً ألقاك»،
لإنها تمثل سيرة حياة للشاعر الكبير الذي رفد المكتبة العربية بمجموعة كاملة تضم كل أعماله الشعرية “كوخ الأشواق” و” نوافذ العدم” و”عفواً أيها المستحيل” ومن بين أعماله أيضاً مرثيته للزعيم الراحل جمال عبدالناصر، التي تعتبر من القصائد الجميلة، وهي بعنوان “أكذا تفارقنا”. يقول في مطلعها:
“أكذا تفارقنا بدون وداع.. يا قبلة الأبصار والأسماع
ماد الوجود وزلزلت أركانه .. لما نعاك إلى العروبة ناع”..
رحل الهادي آدم في ديسمبر 2006، عن عمر يناهز 80 عاماً ، وما زال آدم و أغدا ألقاك حديث السمار
“هكذا أحتمل العمر نعيما وعذابا
مهجة حرى وقلبا مسه الشوق فذابا”
#محمد_ناصر_شيخ_الجعمي