Views: 13
“أجنحة الهوى: بوح الذات بين الصراع والانبعاث”
سعيد محتال
المغرب
نحن أمام رحلةً شعريةً تغوص بنا في أغوار النفس البشرية، متجاوزة حدود الواقع المادي ليلامس جوهر التجربة الوجودية للعشق والتحول. يبدو نص “أجنحة الهوى” كاعترافٍ ذاتي، يكشف عن صراعٍ داخليٍ بين السكون والاندفاع، بين الخجل والجرأة، بين السقوط والانبعاث. تبرز فيه تيمة التحرر الروحي وتقبل الذات بكل تناقضاتها، تُقدم فيه الشاعرة نفسها كـ”فراشة تعشق موتها” تتبع “ريش قلبها”، متخذةً من العواصف رمزاً لتجربتها العاطفية، ومن “الموت” و”الفناء” سبيلاً للرجاء والانطلاق.
أ- دينامية النص:
1- من السكون إلى الانفتاح القسري:
تبدأ الذات في النص من حالة الاستقرار الهش و”زوايا السكون”، حيث كانت تحيا في عالمها الخاص، “تحتضن همساتها” و”تروي سر قلبها لضوء الغسق”. صورة تعكس الرغبة في الحماية والانطواء. لكن هذا السكون يُكسر بـ”عاصفة الريح” التي تُجبر الذات على “فتح نافذتها”.
انفتاح ليس اختياراً سهلاً، بل هو لحظة صدام مع المجهول. يتجلى الصراع هنا في “ترك ثوب الحياء يرتعد”، وهي صورة قوية تعبر عن الخجل والتردد أمام اشتعال الرغبة التي تتوهج “كضوء بزوغ الفجر”.
إنه صراع بين الذات المتحفظة والذات التي تبحث عن حياة جديدة.
2-بين الرغبة والإيمان:
دخول الذات في عمق التجربة العاطفية، حيث تُصور الذات وهي “تجثو تحت سحب حمراء” وتغرقها “قطرات أمطار الرغبة”.
هنا، لم يعد الصراع حول الانفتاح، بل حول الاستسلام الكامل والانغماس في هذه التجربة. فرغم قوة الرغبة لدى الذات / الشاعرة، إلا أنها تجد فيها قوة تحولية: “آمنت بأن الحقول تنطق بالاخضرار وفي كل نبتة شذى، ونبضة سر مُعان”. انبعاث داخلي يتحول فيه الألم أو الخوف من الغرق إلى إدراك للجمال والحياة في كل لحظة.
3-من السقوط إلى الانبعاث:
أبرز محطة في رحلة الصراع والانبعاث، تُقدم فيها الذات نفسها كـ”الطفلة التي لم تُعرف الفشل بالسقوط”. هذا التصريح يكشف عن تحول جذري في الوعي لدى الشاعرة، كل “ضربة ريح” أو صدمة لا تُعتبر هزيمة، بل “بداية حكاية”.
تغير في المنظور يُلغي مفهوم الفشل المتداول لدى الإنسان العادي، ليُعيد تعريف الصراع كجزء لا يتجزأ من مسيرة النمو.
تُصرح الذات بأنها “المجنونة التي تتبع ريش قلبها حتى أسرتني فلسفة الهوى بلا مفرّ”. هنا، يتجسد صراع التسليم لسيطرة العاطفة، لكن هذا التسليم لا يعني الاستسلام للضعف، بل هو انبعاث نحو إدراك عميق بأن الهوى ليس مجرد شعور عابر، بل هو فلسفة حياة تُحتِّم على الذات اتباع مسارها.
4- من الموت إلى الخلود:
(الموت كرجاء والفراشة كرمز للخلود)
تقول الشاعرة :”عشقت الموت كأنه الفناء والرجاء”. لتصل الذات/ الشاعرة إلى ذروة الانبعاث في رؤيتها للموت.
تناقض ظاهري يعكس الفهم العميق بأن نهاية شيء ما هي إلا بداية لشيء آخر. الموت هنا ليس فناءً مطلقاً، بل هو بوابة للرجاء و”نزهة من الآلام”. من “رفات الوجود”، تُعيد الذات “للروح الانطلاق”.
وهذا هو السر الذي تود الشاعرة إخبارنا به.
تتوّج هذه الرحلة بتحول الذات إلى:
– “الفراشة”: رمز التحول والانبعاث.
– الفراشة التي تُولد من الشرنقة (رمز القيود والصراع).
– الفراشة التي تعشق موتها” ( رمز الرغبة في الانعتاق)، بعدما خرجت بأجنحة تسمح لها بالطيران. ليست رغبة في العدم، بل إشارة إلى قبول دورة الحياة. التحول كجزء لا يتجزأ من الوجود.
إنها ذروة الانبعاث حيث يصبح العشق هو القوة التي “تُطوى الصعاب في همسة الزمان” وتُعيد الحياة “على أجنحة الهوى نحو أفق لا ينتهي”.
في نهاية المطاف، نجد أنفسنا أمام رحلة ذات تبدأ من السكون الهش، تواجه الصراعات العميقة للانفتاح والرغبة، ثم تتعلم كيف تحول الفشل إلى قوة دفع، لتنتهي في حالة من الانبعاث الروحي الكامل، حيث يصبح العشق هو الفلسفة التي تُعيد تعريف الحياة والموت.
هذا ما أعطى للنص دينامية خاصة للذات الشاعرة التي مرت بسلسلة من التحولات العميقة:
* من السكون والانطواء: “زوايا السكون”، “أحتضن همساتي”.
* إلى الانفتاح والصراع: “عاصفة الريح”، “فتحت نافذتي”، “تركت ثوب الحياء يرتعد”.
* ثم إلى الانغماس والإيمان: “جثيت تحت سحب حمراء”، “آمنت بأن الحقول تنطق بالاخضرار”.
* وصولاً إلى الفلسفة والتجاوز: “لم تُعرف الفشل بالسقوط”، “فلسفة الهوى”، “عشقت الموت كأنه الفناء والرجاء”.
لتصل بنا في نهاية الرحلة إلى:
* لحظة الانبعاث والتحليق: “أنا الفراشة”، “أعيد للروح الانطلاق”، “أجنحة الهوى نحو أفق لا ينتهي”.
هذا التطور المستمر جعل النص رحلة حقيقية للذات، حيث كل مرحلة تدفع الذات إلى المرحلة التالية، وتضيف بعداً جديداً لتجربتها.
ب- دينامية الصورة الشعرية:
الشيء الذي جعل الصورة الشعرية تتغير باستمرار، ويتأرجح النص بين مجموعة واسعة من المشاعر والنبرات المختلفة والمتضاربة أحيانا، التناقض بين “زوايا السكون” و”عاصفة الريح”، أو بين “الفناء” و”الرجاء”.
تدرج في الحركية: من “اشتعالها” إلى “توهجها كضوء بزوغ الفجر”، ثم إلى “أمطار الرغبة” التي تغرق الذات. هذا التدرج يخلق إحساساً بالحركة والتكثيف.
انعكس ذلك حتى على الجانب العاطفي:
– الجرأة والتحدي: “أنا التي سمحتُ لليدِ أن تكشف أسرارها بلا خجلٍ”.
– الاستسلام والشغف: “غرقتني قطراتُ أمطارِ الرغبة”.
– القوة والتجاوز: “لم تُعرف الفشل بالسقوط”، “أنا الفراشة التي تعشق موتها”.
–
ج- دينامية الإيقاع:
دون ان ننسى الحديث عن الإيقاع العام للنص ولو باختصار، كون الموسيقى لها دور كبير في قصائد الشعر النثرية، عليها تبنى النصوص، وتعتمد عليه في تنويع وحركية النص كالتكرار، تكرار “أنا التي” منح النص إيقاعاً متوازناً في البداية، ليتكسر هذا التوازن لاحقاً.
التنقل بين الجمل القصيرة والطويلة..
اختيار الكلمات تتناغم صوتياً (مثل: “همساتي” و”هدوء”، أو “سحب حمراء” و”أمطار الرغبة” أضافت بعداً موسيقياً حركياً للنص.
حركيات عامة انسجمت مع الفكرة الأساسية للنص، التي تتمركز حول العشق والحياة. حيث انطلقت الفكرة من باب التعامل البسيط مع العشق كشعور، ثم تتحول إلى “فلسفة الهوى”.
يتجانس هذا التصور مع مفهومها للموت من النهاية إلى بوابة للانبعاث والرجاء. وإلى تغير نظرة الذات للسقوط من فشل إلى “بداية حكاية”.
تطور فكري يمثل دينامية في فهم خاص للشاعرة للعالم والوجود. يُعيدُ كتابةَ سرديةِ الحياةِ والموت، تُنشئ كوناً موازياً تُعلّقُ فيه الذات على “أجنحةِ الهوى” كعلامة على تحرّر النفس المثقلة بماديات الحياة.
سعيد محتال
المغرب
-_-_-_-_-_-_-
أجنحة الهوى
ليتَني بقيتُ في زوايا السكون
ولم افتح نافذتي لعاصفةِ الريح
أحتضنُ همساتي حين يهيمُ الهدوء
وأروي سرَّ قلبي لضوءِ الغسق
أنا التي سمحتُ لليدِ أن تكشف أسرارها
بلا خجلٍ، بلا ترددٍ أمامَ اشتعاله
أنا التي تركت ثوبَ الحياء يرتعدُ
في حضرةِ رغبةٍ تتوهج كضوءِ بزوغ الفجر
أنا التي جثيتُ تحتَ سُحبٍ حمراء
وغرقتني قطراتُ أمطارِ الرغبة
آمنتُ بأن الحقولَ تنطقُ بالاخضرار
وفي كل نبتةٍ شذى، ونبضةٍ سرٌّ مُعان
أنا الطفلةُ التي لم تعرف الفشلَ بالسقوط
اعتبرتُ كل ضربةِ ريح
بدايةَ حكاية
أنا المجنونة التي تتبعُ ريشَ قلبها
حتى أسرتني فلسفةُ الهوى
بلا مفرّ
وأنا الفراشة
روح العشقِ المقيد
عشقتُ الموتَ كأنه الفناء
والرجاء
في كل ذرةِ ضوءٍ
نزهةٌ من الآلام
وبين رفاتِ الوجودِ
أُعيدُ للروحِ الانطلاق
فهذا سرُّ القصّةِ
وجمالُ العشق
أن تُطوى الصعابُ في همسة الزمان
وتُعيدَ الحياةُ
على أجنحةِ الهوى
نحو أفقٍ لا ينتهي
سأبقى اتبع ريش قلبي
فأنا الفراشة التي تعشق موتها
آمال زكريا
الجزائر